في صباح يوم مشمس على ضفاف بحيرة جنيف "Léman" التي بدت نافورتها من بعيد تدفع الماء بنشاط إلى الأعلى مسافة مئة وأربعين مترا، حملت فنجان قهوة تنبعث منه رائحة البنّ النفاذة، وقالب كعك صغير بالشوكولا، وجريدة، ثم اتخذت مكانا على طاولة تطل على البحيرة من زاوية تتيح لي رؤية بانورامية تبعث على التأمل في جماليات علاقة الإنسان بالمكان والكائنات، فالبحيرة مليئة بأنواع الطيور المتعايشة على ضفافها، وليس استثناء أن يُرى البجع على ضفافها نائما ملء عينيه دون أن يقلق أحد منامه.

فجأة حطّت بعض العصافير على طاولتي لتشاركني بمناقيرها الصغيرة الصفراء إفطاري الصباحي، رغم إشارات السائح الأوروبي في الطاولة المقابلة أنْ "انظر إلى الطيور تأكل ما لديك"، فأشرت إليه أني اكتفيت بقضمة واحدة والقهوة.

كانت الطيور آمنة لا تخشى البشر، بل إن الطيور الخائفة تُقدم بحذر لأخذ نصيبها حتى تزاحم عددا كبيرا من العصافير، كلٌ يريد تحفيز الذاكرة إلى أن تذكرت قصيدة نزار قباني الشهيرة "الطيور السويسرية":

"حملتُ جرائدي العربيةْ

وجلستُ لأقرأها

على ضفاف بحيرة جنيفْ

فجأةً..

هربتْ مئات الطيور، مذعورةً

كأنها خافتْ على ثقافة أولادها

من عناوين جرائدي..

وأخبار بلادي..."

يبدو أن هذه الطيور وُجدت منذ أجيال على ضفاف بحيرة "جنيف" التي هي إحدى أكبر البحيرات الأوروبية، وتعايشت مع المكان والزمان والإنسان-الذي هو أكبر خطر يمكن أن يهدد بقية الكائنات- بكل هدوء واطمئنان، فأسلاف الطيور السويسرية ربما لم يروا منذ أكثر من قرنين رجلا يحمل بندقية ويصطادها جزافا دون وجه حق، ليحقق متعته في القتل، ولم يشهدوا صراعا على الموارد لأن الطبيعة كريمة إلى حد لا نهائي، حيث لم تشاهد الطيور السويسرية منذ قرون أحدها يموت عطشا، ولم تشاهد الذين يذبحون الكائنات الأخرى حرقا ليرفهوا عن أنفسهم، ولم تشاهد البشر يذبحون البشر لأنهم يختلفون عنهم في الدين أو العرق أو اللغة، فحتى الحروب التي خاضها العالم كانت جنيف قلب العالم الآمن، ومركزه الإنساني والاقتصادي.

لقد كان نزار محقا في تصوير فزع "الطيور السويسرية" من عناوين الجرائد وأخبار البلاد العربية، خاصة أنه كلما ظننا أننا تقدمنا وجدنا عوامل الجذب إلى الخلف هي هي لم تتغير، لا سيما في هذا الوقت الذي يقف فيه العالم العربي على "كف عفريت"، إذ إن الطيور السويسرية تخشى أن ينتقل الداء إليها وإلى ثقافتها وأجيالها القادمة، من ثقافة الذعر والخوف.

فالبنية الثقافية في العالم الغربي تختلف جذريا عما كان يسمى بـ"العالم العربي"، وهذا الاختلاف أرسى دعائم الثقة والذات والتحرر حتى لدى الطيور؛ لأن المكان والإنسان كفيا أن يكونا عامل خوف مستمر!

إذ يؤكد التاريخ الأوروبي أن العصور الأوروبية الوسطى وصل فيها الظلام أوجهُ ومداه ومنتهاه التاريخي، فأفضى ذلك إلى عصور النهضة والتنوير ثم الحداثة وما بعدها، لتصبح الحضارة الغربية منتجة لأفكار وسلع خلاقة وحاسمة الفاعلية في تاريخ الإنسانية، بينما كنا فيها نحن-وما زلنا- مستهلكين لا منتجين، للدرجة التي يمكن أن فيها طيرا سويسريا مسجونا في قفص بائس لدى بائع طيور في إحدى الدول العربية!

ولهذا، فإن الثقافة الغربية مرت بمراحل متتابعة من التطور والتحول والتفاعل عبر حقب زمنية طويلة، توجت بحصول الإنسان والحيوان والطير على الحقوق وفقا للعدل والمساواة والحريات الفردية والعامة التي هي أسس الحضارة الغربية الحديثة، والمعيار الأساسي لتفوق الشعوب الأوروبية وتقدمها، ولهذا يمكن القول: إن العالم العربي وجميع مكوناته مهدد بالغياب الحضاري الكلي؛ لأن عوامل البقاء ليست للأقوى إنما هي للأكثر تكيفا مع التغيير.