ليست أقفاص دوما -على قبحها- ظاهرة جديدة في سورية أو في الشرق كله والمنطقة العربية، فهذه المنطقة من العالم تعيش منذ قرون في سلسلة لا تنتهي من الأقفاص، أقفاص داخل أقفاص داخل أقفاص، أجسادنا أقفاص لأرواحنا، ومجتمعاتنا أقفاص لأجسادنا، وأعرافنا وتقاليدنا أقفاص لمجتمعاتنا، بعض أنظمة حكمنا الجائرة أقفاص لنا ولتقاليدنا، وجنون العظمة قفص لبعض أنظمة حكمنا، وهكذا.

ليست بعض الأقفاص أقبح من بعض، كلها قبيحة ولا إنسانية، لكن بعضها أكثر فجاجة ومباشرة، فالقفص الكبير الذي عاش فيه السوريون 4 عقود، وهم يدفعون منذ 5 سنوات ثمن محاولة الخروج منه، ليس أقبح من الأقفاص الصغيرة التي وضع فيها زهران علوش أسيراته، على أسطح البيوت في دوما، وسمح بتصويرهن في مشهد لا يليق بالحيوانات فما بالك بالنوع البشري، وهو مشهد لا يمكن لإنسان طبيعي أن يراه دون أن يشعر بالإهانة وبأن إنسانيته قد مُست.

وهنّ من هنّ؟ محاربات؟ قاتلات؟ مجرمات؟ هنّ مجرد نساء ينتمين لجماعة بشرية أخرى (طائفة أو عقيدة أو قومية أو أي كان) وضعتهن أقدارهن بالصدفة في بيوتهن التي تقع بالصدفة أيضاً في مكان يسهل على زهران علوش اصطياده واصطياد من فيه.

تم خطف معظمهن من مدينة عدرا العمالية، وقيل يومها إن الهدف هو الضغط على النظام للتفاوض على إطلاق سراح المعتقلات لدى النظام، وكأن النظام يكترث لهؤلاء النسوة البسيطات أو يهمه أمرهن، قال البعض يومها -واعتقدوا- إن هؤلاء النساء وكون معظمهن ينتمين للطائفة العلوية سيشكلن عامل ضغط على النظام، إن لم يكن بشكل مباشر، فبسبب ضغط بيئته وأبناء طائفته، وسيدفعه ذلك إلى الخضوع لمطالب الثوار وإطلاق سراح النساء المعتقلات لديه، وتخفيف القصف عن الغوطة مكان تواجد هؤلاء الأسيرات.

من قال ذلك يومها كان إما يخادع نفسه أو لا يعرف عمن يتحدث، فمن يعرف هذا النظام يعرف جيداً أنه لا يكترث لشيء ولا يعنيه شيء سوى السلطة، وهو مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل الحفاظ عليها، حتى لو كان الثمن أبناء طائفته ومنطقته وحلفاءه وداعميه، وهو لا يتورع عن التضحية بأي شيء وأي أحد في سبيل المحافظة على كرسي حكمه.

ولا أدل على ذلك من أقفاص الموت (التوابيت المغلقة بإحكام) التي يعود بها العسكريون الشبان الفقراء إلى قراهم بالعشرات، دون أن يؤثر موتهم ودموع أمهاتهم في مساره قيد أنملة، وهو يضحي بهم بسهولة ودون أن يرف له جفن، ويطالبهم بالمزيد، وها هو أخيرا ينشر عناصره الأمنية في القرى والأحياء العلوية لالتقاط من تبقى من الشباب وسوقهم بالقوة إلى حربه المجنونة.

قرأت تعليقاً لشخص سوري من محافظة طرطوس قبل فترة، وكان يرد على شخص آخر يقول إن محافظة طرطوس هي المحافظة الوحيدة في سورية التي لم تجر فيها أية أحداث، ولم تتضرر من هذه الحرب، فعلق عليه هذا الشاب: "صحيح أنه لم تجر معارك في محافظة طرطوس، لكن شبابها كلهم صاروا في القبور فداء لك ولمعلمك، طرطوس لا تسقط فيها الصواريخ والقذائف، لكن تصلها كل يوم عشرات الصناديق المغلقة وفيها أشلاء أبنائها".

بالعودة لأقفاص الذل التي تم تصويرها في دوما، والتي تلخص حكاية ما جرى في سورية الجريحة عبر خمس سنوات، فقتل الأبرياء تم الرد عليه بقتل أبرياء آخرين، وخطف الحرائر تم الرد عليه بخطف حرائر أخريات، وهذه الدوامة لا يمكن لها أن تنتهي، ما لم نقف جميعاً ونقول للباطل إنه باطل أياً كان مصدره وأياً كان دافعه وأياً كان من فعله.

فلا يمكن أخلاقياً أن ندين النظام لأنه يعتقل النساء ويستخدمهن وسيلة للضغط على أزواجهن وذويهن وبيئتهن الاجتماعية (وهو مدان بكل المقاييس الدينية والأخلاقية والقانونية) ونتغاضى في الوقت نفسه عمن يقوم بالفعل نفسه حتى لو كان محسوباً على الثورة، بل يجب أن تكون إدانته أشد وأعلى، فهو ينتمي لثورة قامت لترفع الظلم عن الأبرياء، وقديما قيل: "لا يفل الحديد إلا الحديد". فما الذي سيفلّ هذا الحديد؟ وأي حقد متعاظم سيربيه وينميه ويكبره؟