منذ نكسة يونيو 1967 حتى يومنا هذا، طرحت مقاربات من قبل العرب والصهاينة لتسوية الصراع حول القضية الفلسطينية. جرت بعض تعديلات، لكن جوهرها بقي على حاله.

المقاربة الأولى، عربية رفضت قرار التقسيم، واعتبرت "إسرائيل" جسماً غريباً على الأمة، لن تستقيم الأمور إلا بإزالته. نقطة ضعف هذه المقاربة، أنها لم تضع المشروع الصهيوني، في سياقه التاريخي. ولم تدرك موقعه في الصراع الدولي. لقد عممت ثقافة رفض، لا نجادل فيها. وأعلنت مقاطعة اقتصادية للشركات التي تصدر منتجاتها للكيان الغاصب. لكنها لم تقدم على أي فعل حقيقي بهدف تحرير فلسطين.

الحرب الوحيدة التي بادر العرب لشنها بهدف تحرير فلسطين، هي حرب 1468, أما الحروب الأخرى فكانت لأسباب ليس لها علاقة بمشروع التحرير. فحرب 1956 كانت عدواناً ثلاثياً، على مصر شاركت بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل” به، كل لأسبابها الخاصة. فبريطانيا استهدفت بمشاركتها قرار تأميم قناة السويس، وفرنسا استهدفت احتواء المقاومة الوطنية في الجزائر التي كانت تتخذ من القاهرة مقرا لها. أما “الإسرائيليون” فاستهدفوا إضعاف القوة العسكرية المصرية.

أما حرب الأيام الستة في، يونيو 1967 فهي عدوان “إسرائيلي” صريح على مصر والأردن وسوريا. وقد شنت بهدف تغيير مجرى الصراع. وإجبار العرب على القبول بالأمر الواقع. وكانت حرب 1973، التي شنتها مصر وسوريا، ردا على نتائج حرب يونيو، وهدفت إلى إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، وقد مثلت انتقالاً رئيساً من قبل أنظمة المواجهة في النظر إلى طبيعة الصراع العربي مع الصهاينة.

المقاربة الأخرى، مفرداتها فلسطينية، لكنها نتاج لمناخ عربي ودولي ساد بعد حرب أكتوبر، يسير باتجاه التفاوض مع "إسرائيل"، والاعتراف باغتصاب فلسطين. وتميزت بانتقال سريع في مبادرات الحل، من الدولة الديموقراطية الفلسطينية، تبني قيام سلطة وطنية فلسطينية على الأراضي التي تنسحب منها “إسرائيل” بالضفة الغربية والقدس وقطاع غزة. وبنهاية السبعينات. وتبلور الموقف بشكل واضح وصريح إلى العمل على تأسيس دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلها الصهاينة في حرب يونيو 1967.

أما المقاربة “الإسرائيلية”، فتقترح حكما ذاتيا فلسطينيا، يرتبط إدارياً، مع الأردن، ويرتبط اقتصادياً وعسكرياً بإسرائيل، ويكون معبراً لها لمختلف الأقطار العربية. وقد أريد لهذه المقاربة أن تبقى غامضة في تفاصيلها، لكن التطورات اللاحقة أفصحت عن تفاصليها.

فقد أضاف اليمين “الإسرائيلي”، باستمرار لهذه المقاربة، بما يأخذ من حصة الفلسطينيين. فاقترح أن يكون الأردن هو الوطن البديل. أما المؤسسون التاريخيون لـ”إسرائيل”، فأدخلوا رتوشاً تحسينية، كمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي أعاد التنظير له، شمعون بيريز، لكنها لا تخرجها أبداً عن سياقها في رفض فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، بحدودها الدنيا.

أثناء العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة في نهاية 2008 تتالت تصريحات الصهاينة، مشيرة إلى رؤية جديدة للصراع، لم تخرج في تفاصيلها كثيراً عن مشروع إيغال آلون في مطلع السبعينات. وقد وردت في مقالة لجون بولتون نشرت في صحيفة “الواشنطن بوست”، قال فيها “إن فكرة قيام دولة فلسطينية، تقودها منظمة التحرير الفلسطينية أخفقت، وإن أي حل قائم على دولتين، على أساس السلطة ولد ميتاً”. إن هذه الفكرة لأن “الإرهابيين” كما يرى بولتون نجحوا في السيطرة على غزة. إن الحل كما يراه، يقتضي وجود ثلاث دول، توضع بموجبها غزة مجددا تحت سيطرة مصر،وتكون الضفة الغربية، تحت السيادة الأردنية.

لقد أخفقت جميع المقاربات في تحقيق حلم الفلسطينيين في العودة وحق تقرير المصير. فالمقاربة الأولى وحدها تحدثت عن حقوق كاملة للفلسطينيين، لكنها لم تصغ أية برنامج لتحقيق ذلك، والمقاربة الثانية، اختزلت الحقوق الفلسطينية، بالضفة الغربية وقطاع غزة فقط، أما المقاربة الأخيرة، فلا تدع شيئاً للفلسطينيين، بل تعتدي على الأردن، وتنال حصة سيادته ووجوده.

إن ذلك يطرح بقوة أهمية العودة إلى مشروع الدولة الديموقراطية في فلسطين، وفكرة الدولة الواحدة، بصيغة تنطلق من التسليم بداهة بعروبة فلسطين، التي ترى الأمة العربية وحدة تاريخية وجغرافية. وأن المواطنة تقوم على أساس الانتماء إلى الأرض وليس إلى العرق أو الدين. ويجري الفصل فيها بين ما لله وما لقيصر. وإذا ما سلمنا بأن حق الفلسطينيين في العودة لديارهم، لا يسقط بالتقادم، فإن حق اليهود العرب في العودة إلى ديارهم لا يسقط هو الآخر بالتقادم. إن ذلك يتطلب تضافر كل القوى المتضررة من المشروع الصهيوني، بالنضال ضده. فالصهاينة، لم ينتقصوا من إنسانية الفلسطينيين ويحرموهم من أوطانهم فقط، لقد انتقصوا من حق اليهود العرب أيضاً، وأسهموا في تشريدهم من أوطانهم. وبالمثل ساد نمط استعلائي، ضد اليهود الشرقيين والأفارقة. ويجسد الصراع بين اليهود الأشكنازيين والسفارديين، صورة أخرى من عنصرية الصهاينة. هذه الرؤية تم حجبها، بسبب تراكم مواريث، ليست من صلب روح الأديان السماوية التي تدعو إلى المحبة والتسامح. وقد صبت في نهاية المطاف، وبغض النظر عن النيّات في مصلحة المشروع الصهيوني.

المقاربة المطلوبة للصراع مع الصهيونية، ينبغي أن تضع في الحسبان، صياغة نضالية، طويلة المدى، تعمل على تصحيح الخلل في التوازن الديموغرافي بين العرب والكيان الغاصب، وتجرد الحركة الصهيونية، من رصيدها البشري، كمقدمة لازمة لهزيمة مشروعها التوسعي الاستيطاني، الذي مثل ولا يزال خطرا ماحقا على الأمن والوجود العربي. وأهم ملامحها رفضها لفكرة الدولة، التي تعد يهوديتها الحجر الأساس. وهي مقاربة لن تتم بالتوافق أو المفاوضات، لأن الصهاينة، لن يتخلوا تحت أي ظرف عن رؤيتهم العنصرية. إن السبيل، إلى ذلك هو إحداث خلل في التوازن البشري والحضاري لمصلحة الأمة العربية.

إن هذه المقاربة ستقابل بالرفض من قبل كثيرين، في كل الخنادق، على اختلاف مساربها، وستطرح نقاطاً واسعة ضدها. سوف تتهم بالرومانطيقية، لكن مثل ذلك الجدل، سيسهم دون شك في بلورة خطوطها. حسبها في هذه اللحظة أن تسهم في تراكم الحراك حول الوجود والمستقبل والمصير.