هذا المقال ثمرة لحوار طويل مع الصديق الباحث في قضايا العدالة فاضل العمري. الحوار كان امتدادا لنقاش المقالتين السابقتين عن منطق العدالة ومنطق الجماعة. الفكرة الأساسية في المقالتين السابقتين أن موقف الإنسان من الأحداث المحيطة به يأخذ في كثير من الأحيان إحدى هاتين الصورتين: أن يتخذ الإنسان موقفه بناء على ما تمليه عليه حسبته الأخلاقية للعدل والظلم، بمعنى أن يأخذ جميع أطراف الصراع في الحسبان ويقف مع من يراه على حق. الصورة الثانية أن يتخذ الفرد موقفه بناء على حسبة أنانية يراعي فيها فقط مصلحته الذاتية أو مصلحة الجماعة التي ينتمي لها. الأخلاق تعني أخذ الآخر بعين الاعتبار بينما تنقض الأنانية المبدأ الأخلاقي باعتبارها انشغال بالذات واستعمال للآخر. الحوار كان بحثا عن حالات يمكن أن تكسر هذا التصنيف أو تربكه على الأقل. بمعنى حالات يكون فيها من المقبول التوجه مع خيار الجماعة حتى ولو كان مخالفا لما نراه حقا وعدلا. في البداية جربنا مثال الديموقراطية كحالة يمكن من خلالها الفهم بشكل أوسع لقيمة خيارات الجماعة. في الأخير الديموقراطية قائمة على احترام خيارات الأغلبية إذا لم تؤد إلى كسر مبدأ المساواة بين الناس. الديموقراطية تعني أن نقوم بطاعة الأنظمة التي اختارتها الأغلبية حتى ولو لم نكن مقتنعين بها. على سبيل المثال قد تؤيد الأغلبية رفع الضرائب على الطبقة المتوسطة بينما قد يرى أحدنا أن هذا عمل مخالف للعدالة والحق باعتبار أن الطبقة الوسطى تدفع فعلا ضرائب عالية بينما يتمتع الأثرياء بخصومات كبيرة على ضرائبهم. قرار الغالبية يتحول لقانون وبالتالي يجب على الجميع الالتزام به. عدم الالتزام به يعني أن القانون لم يعد له احترام مما سيؤدي لتفكك العقد الاجتماعي من أساسه. هنا لدينا مثال على إنسان من المفترض أن يسير مع رأي الجماعة رغم أنه يعتقد أن هذا الرأي يخالف ما يراه حقا وعدلا.
هذا المثال مهم جدا ومفيد لتوسعة آفاق النقاش. من أهم القضايا التي يفتحها الفرق بين الموقف الأخلاقي الذي يتبناه الفرد وبين السلوك العملي الذي سينتج عنه. عموما نحن نعلم أن الواقع يفرض حكمه في كثير من الأحيان ولكننا نطلب من الناس فعل ما يستطيعون للوفاء بالتزاماتهم الأخلاقية، بمعنى أننا سنعذر من حاول قدر إمكانه تحقيق العدل ولو فشل في تحقيق ذلك. هذا تفريق مهم. لكن سؤال الديموقراطية يطرح إشكالا أعمق وهو أن القضية ليست فقط خضوعا للواقع بل إن الحفاظ على تماسك الجماعة مطلوب حتى لو ارتكبت هذه الجماعة ما نراه مخالفا للحق. برأيي أن الديموقراطية تحمل في داخلها بذور الحل لإشكاليتنا. الديموقراطية وإن طالبت الفرد باحترام خيارات الغالبية بالشروط المذكورة أعلاه إلا أنها تعطيه الحق في الاعتراض والتعبير عن هذا الاعتراض والعمل على تغيير هذا القانون وفق القانون العام. هذا يعني أن صاحبنا المعترض على رفع الضرائب يكفل له القانون الديموقراطي أن يعبّر علنا وفي العموم عن اعتراضه على هذا القرار. يكفل له النظام أن يعمل بشكل علني لعقد نشاطات مختلفة لنشر اعتراضه على هذا القانون، كما يكفل له النظام العمل على تعديل أو تغيير هذا القانون بالطرق القانونية. وفي حالات أكثر حدة فقد كفلت الديموقراطية لهذا الفرد حق العصيان المدني للاعتراض على القوانين غير العادلة. هذه الحالات يبدو أنها تلبي الشرط الأخلاقي وهو أن يعمل الإنسان لتحقيق ما يراه عدلا وإن اضطر للخضوع لقوانين لا تلبي ما يراه حقا وعدلا.
الفيلسوف إيمانويل كان لديه تقسيم مهم للتفكير في هذه القضية. بحسب (كانت) فإن الفرد يلعب أكثر من دور في المجال العام. الفرد باعتباره موظفا عاما عليه طاعة القانون العام حتى ولو اختلف مع ما يراه عدلا، ولكن هذا الدور لا يستغرق كل وجوده فهو خارج عمله كموظف عمومي مواطن له الحق في العمل على الاعتراض على القوانين التي لا يراها موافقة لما يراه حقا. هذا التقسيم يسعى إلى تحقيق هدفين: الأول الحفاظ على قدر معقول من الاستقرار والتماسك للمجتمع يتحقق من خلال احترام القانون ورأي الغالبية. لو أراد كل موظف تنفيذ ما يراه هو حقا فإننا سندخل في حالة اعتباطية يحكمها توجه الأفراد الشخصي وليس القانون العام. الهدف الثاني هو توفير قدر أساسي من التغيير والتجديد يدفع باتجاهه من لديهم اعتراضات على الوضع القائم أو أفكار لتطويره وتجديده.
بهذا المعنى يمكننا القول إن الخضوع لقرار الغالبية خوفا من تفكك الجماعة لا يتعارض بحد ذاته مع منطق العدالة بشرط أن يتوفر للفرد حق التعبير العمومي عما يراه حقا وعدلا، وأن يتوفر له الحق في العمل المعلن وبشكل جماعي لو أراد أن يقوم بتغيير رأي الجماعة وتعديل القانون أو إلغائه لو تطلب الأمر. لذا فمنطق العدالة لا يتعارض بالضرورة مع الانتماء للجماعة ولكنه يتناقض مع التبعية العمياء لأي جماعة، وهو ما يتعارض مع المبدأ الأخلاقي الأول والأساسي، وهو أن ندفع قدر المستطاع باتجاه العدل والحق والخير.