ليست الحداثة سوى مقولة تاريخية، وقد ارتبطت ارتباطا وثيقا، بنشوء الدولة/ الأمة. وأبرز ملامحها نشوء الدول، على قاعدة هزيمة الإقطاع وانتصار الثورة الصناعية. وقد وضعت الثورة الفرنسية المدماك الأقوى في انهيار النظم القديمة القائمة على قاعدة الحق المقدس وسيطرة الكنيسة.

وكانت مؤشرات التراجع السياسي للكنسية قد برزت بعد بزوغ حركة الإصلاح الديني لكينج وكالفن. ليتبعها بعد حقب عدة انتصار اليعاقبة في فرنسا، والمتطهرون في إنجلترا. ولم تكن اتفاقية ويستفاليا سوى المقدمة لانتصار مفهوم الأمة المستند على احترام السيادة وحق تقرير المصير، وبروز البروتستانتية لاحقا، معبرة عما عرفه ماكس فيبر بالعقلانية القانونية، ومن ثم بروز ظاهرة الفصل في السلطات الثلاث، ودولة العقد الاجتماعي.

وكانت أهم خاصية لتلك المرحلة هي نشوء الدولة القومية، وكسر الحواجز الجمركية داخل الأمم الناشئة، والبحث عن أسواق جديدة خارج أسوار الأمم الحديثة التشكل. وقد وضعت تلك المقدمات الأساس لبداية العهد الاستعماري التقليدي الباحث عن الثروة والموارد في الدول الفقيرة بالقارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

وهكذا فإن الدول التي وقعت معاهدة ويستفاليا داخل أوروبا هي التي خرقتها خارج النطاق الأوروبي. وقد رسمت تلك البداية تناقضا فاضحا بين مفهوم الحداثة الذي مورس بجدارة في القارة الأوروبية وما قبلها الذي مورس -من قبل الأوروبيين أنفسهم- في العالم المقهور.

واقع الحال أن التوسع الاستعماري هو من وضع اللبنات الأساسية لما يطلق عليه الآن بالعولمة. فهذا التوسع حقق اندماج الدول التي وقعت في قبضة المستعمر في اقتصاداته عن طريق الإخضاع والقسر. وقد كانت قراءة ذلك موضوعا أثيرا لعدد من مفكري أميركا اللاتينية، ولاحقا مفكرين من القارات الثلاث. وأساس تنظيراتهم هو وجود مراكز وأطراف، وأن المركز يفرض سياساته ومناهجه الاقتصادية على الأطراف ويقوم بابتزازها.

وحين انطلقت تنظيرات "مدرسة التبعية" Dependency school لم يكن الحديث عن العولمة قد ترسخ في حينه. لكن عملية إدماج اقتصادات العالم الذي اتفق الأسياد على تسميته بالعالم الثالث قد حققت عولمة فعلية في عمليتين رئيستين.

الأولى أنها دمرت الصناعات الحرفية لبلدان هذا العالم "غير النامي"، وأجبرتهم على الاستعاضة بمنتجاتها كبديل لتلك الصناعات. والثانية أنها أخضعت منتجات الأطراف الزراعية لصالح دول المركز، بل وحددت لها نوع المنتج الزراعي المطلوب.

وجاء اكتشاف رأس الرجاء الصالح ليضيف إلى أزمة بلدان عربية كمصر وبلاد الشام أزمة مضاعفة، حيث انتهى عمليا دور موانئ بيروت واللاذقية والإسكندرية، كحلقات اتصال في الملاحة البحرية الدولية.

فرض على مصر زراعة القطن لمقابلة احتياجات مصانع النسيج البريطانية، وفرض على الجزائر زراعة الكروم لمقابلة احتياجات مصانع النبيذ الفرنسية، وهكذا كانت العلاقة مع معظم الدول التي وقعت فريسة الهيمنة الاستعمارية. وبذلك حدث اندماج قسري لاقتصادات بلدان الدول المتخلفة بالدول الصناعية. وتلك كانت صورة واضحة من صور العولمة.

المفهوم الحديث للعولمة، رغم القول بأنه يمثل عالم ما بعد الحداثة، لكن التعبير في حقيقته غير دقيق إلا إذا تم النظر له من خلال التسليم بالمركزية الأوروبية، وليس على قاعدة نظام دولي يستند على الندية والتكافؤ بين الدول، وفقا للنصوص التي عبرت عنها مبادئ الرئيس الأميركي ويدرو ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى، والتي غدت فيما بعد قاعدة مبادئ عصبة الأمم المتحدة، ولاحقا بعد الحرب العالمية الثانية قاعدة مبادئ هيئة الأمم المتحدة التي أكدت على استقلال وسيادة الدول وحقها في تقرير المصير.

وعلى هذا الأساس فإن القول بنهاية الدول وانتهاء الحدود واعتبار العالم فضاء واحدا لم يكن أمرا جديدا، فقد مارسه الاستعمار التقليدي لعدة قرون، لكن فكرة الاستقلال والسيادة ترسخت وتعززت تاريخيا، ومن أجل صيانتها قدمت الشعوب التضحيات الجسام. 

تتماهى تنظيرات العولمة مع رؤية المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، التي ترى ضرورة إعادة تشكيل البناء الفلسفي للفكر السياسي الغربي، بحيث يكون منسجما مع نزعتي الهيمنة والسيطرة اللتين اعتمدتهما إدارة جورج بوش الابن، والقائمة على احتقار المؤسسات والهيئات الناظمة للعلاقات الدولية كهيئة الأمم المتحدة وعدم احترام قراراتها.

يغيب الحديث عن حقبة نهاية السيادة والاستقلال، صراع الإرادات، وقوة الثقافات. لم تكن آليات العولمة وقوانينها نتاج تطور تاريخي بل تمت بالقسر. والحديث الذي يتكرر عن سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، باعتباره دليلا على سقوط مفهوم الدولة والأمة والسيادة، يغيب عنه حقيقة عودة الدب القطبي بقوة للساحة الدولية، وتنافسه الحاد والحاسم في بعض الأحيان لفرض شروطه وأجنداته.

لا يمكن للعالم أن يقبل استمرار الانفلات الدولي الذي ساد في عقدي تفرد الولايات المتحدة على صناعة القرارات الأممية. والعالم يصيغ مرحلة جديدة في تاريخه، لا تقوم على القوانين التعسفية لعولمة المحافظين الجديد. وبالتأكيد فإن تنظيرات كهذه قد تجد لها ثقلا في ظل غياب توازنات القوة وتفرد دولة واحدة على العالم. أما وأن هذا التوازن أمسى محققا، فليس من مصلحة البشرية ألا يكون لمعاهدة ويستفاليا حضورها.

لقد فشل الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق أمام ضربات المقاومين. وهدف المقاومة هو تحرير البلدين وتأكيد حقهما في السيادة وتقرير المصير. واليوم تتشكل هيئات وتكتلات دولية جديدة، كمنظومة شنغهاي والبريكس، ومنظمات مماثلة تجمع دول أميركا اللاتينية.

لن يكون بمقدور العالم القبول باستمرار الانفلات الدولي، ولا مناص من استعادة مفاهيم الاستقلال والسيادة وحق تقرير المصير. وإعادة الاعتبار لمفهومي الأمة والدولة. والعولمة هي منجز إنساني إيجابي لا ينبغي أن يهدر، بل ينبغي أن تكون في خدمة البشرية جمعاء.