من المواقف التي يحكيها الروائي الكولومبي (فاسيولينسي) عن أستاذه الكبير (جبريال ماركيز) أن ماركيز بعد إصابته بالزهايمر نظر إلى صديق كان في زيارته ثم قال: "أنا لا أعرفك ولكني أعرف أني أحبك".

لعل في هذا دلالة على أن الزهايمر الذي نال من وعي هذا الأسطورة الكولومبي لم يتمكن مما زودته به الحياة من حبٍ وعاطفة. ولكن كيف يفسر العلم هذا الأمر؟

يقول العلم الحديث الآن بانفصال شبه تام بين ذاكرة العقل الواعي وذاكرة المشاعر، كما يقرر تقريباً أن فقدان المرء لذاكرته الواعية أسهل من  فقدانه لذاكرة مشاعره، سواء كان ذلك الفقدان ناتجا عن تلف مرضي كما في الزهايمر، أو حدث عرضي كما في إصابات الدماغ الشائعة.

يرى (أنطونيو داماسيو) عالم الأعصاب الأميركي في كتابه المهم (الشعور بما يحدث) إن ذلك راجع إلى أن الآلية البيولوجية التي تشكل الأساس للعاطفة لا تعتمد على الوعي، ويبرهن على قوله بعدة تجارب عملية استعرضها في كتابه منها تجربة (السيئ/ والجيد) التي أجريت على شخص يدعى (ديفيد) تتلخص حالته في كونه لا يستطيع أن يتعلم أي شيء فيزيائي جديد، سواء كان مظهرا أو صوتا أو مكانا أو كلمة. ولذلك هو لا يستطيع تمييز أي شخص جديد من خلال وجهه أو صوته أو اسمه. ولا يستطيع أن يتذكر أي شيء يتعلق بالمكان الذي التقى به شخصا معينا أو الأحداث التي جمعته مع ذلك الشخص. وقد نشأت مشكلته بسبب تلف في بعض مناطق الدماغ المهمة في تكوين ذكريات لحقائق جديدة (الفصان الصدغيان والمنطقة المسماة بالحصين).

يصف داماسيو التجربة كالتالي: على مدى أسبوع أشغلنا ديفيد تحت ظروف مُتحكم فيها كليا بثلاثة أنواع من التفاعل البشري. الأول منها كان برفقة شخص بهيج ومرحب للغاية يكافئ ديفيد باستمرار وإن لم يطلب منه شيئا. أما الثاني فقد كان يرافق فيه شخصا محايدا عاطفيا أشغله بنشاطات ليست بالسيئة ولا بالسارة. في حين أن الثالث كان مع شخص فظ السلوك يرفض أي طلب ويكلفه بمهام نفسية مضجرة جدا. كان ترتيب ذلك عشوائيا ولكن مع الحرص بأن يكون الوقت في التفاعلات الثلاثة متكافئا عند المقارنة.

بعد انتهاء المدة طلب من ديفيد أن ينظر إلى مجموعات تتألف كلٍ منها من أربع صور متضمنة صورة لأحد الأفراد الثلاثة الذين تفاعل معهم في التجربة. كانت النتيجة مذهلة، ففي كل مرة تعرض عليه مجموعة صور تكون إحداها للفرد الذي كان ودودا وإيجابيا معه كان يختارها بشكل شبه مطرد، حيث اختارها لأكثر من 80% من المرات. في حين أنه كان يتجنب الشخص السيئ دائما ولم يختره في كل المرات التي شاهد فيها صورته ضمن أي مجموعة تم عرضها عليه.

ومن المهم الإشارة إلى أن الشخص الذي تقمص دور الشخص السيئ في التجربة كانت شابة حسناء بهيجة ولكن هذا لم يكن ليغير شعوره الكامن تجاهها.

يقرر داماسيو إن هذا مخالف للسلوك التصادفي، ويصل إلى النتيجة نفسها تقريبا في كل التجارب المتعلقة بالموضوع نفسه.

نحن إذًا نحب دون أن يقتضي ذلك تذكرنا دوافع حبنا، وكذلك نبغض بنفس الطريقة. ولعل ذلك ما يفسر مبالغات البعض في تعليل مشاعرهم بأسباب يتوهمون واقعيتها في حين أن الحال خلاف ذلك، إذ لأنهم يشعرون بثقل ما يحملونه من مشاعر لا يتصورون خلو ذلك من علل تكافئ ما يشعرون به، ليتولى العقل التبريري حينئذ مهمة معادلة الأسباب بالنتائج فيضفي على المحبوب من الصفات ما يبرر به ذلك الحب الذي لا يتذكر علته الحقيقية بالفعل. وكذلك يفعل العقل عند تبريره للكراهية أيضا، فالمبالغون بإضفاء المحاسن أو سلبها لا يتعمدون الكذب في الغالب ولكنهم يندفعون تحت وهم ضرورة مطابقة صورة الواقع والمنطق لما تحمله أفئدتهم من صور، فتجد أحدهم يندفع مغنيا "كل ما عديت أسباب حبي لك أغلط بالعدد وأعد من ثاني"، في حين أن حقيقته لا يعبر عنها أكثر من "أحبك ليه أنا مدري"، وهو الموقف الذي بات يتفهمه العلم الحديث.