يصعب على المراقب العام أن يتتبع كل ما يحصل في المجتمع السعودي من تحولات وصدامات بعضه أشبه ما يكون بكوميديا سوداء عامة تتحرك وسط هذا المجتمع، حتى يعجز الكاتب عن رصد كل ما يمكن رصده بحيث يمكن وصف سياقه أو حتى القدرة على التحليل الفكري والاجتماعي واللغوي من خطابات رسمية أو اجتماعية، فحتى بداية الشروع في كتابة هذا المقال كان العقل فارغا أو عاجزا عن القدرة على جمع شتات القضايا الفكرية والاجتماعية، فمواقع التواصل الاجتماعي تتفجر بعدد كبير من القضايا التي هي في حقيقتها تكشف عن البنى الفكرية والثقافية التي تعتمد عليها الخطابات الرسمية والاجتماعية بحيث تكون تعبيرا حقيقيا عما يعتمل داخل هذا المجتمع وربما عملت الصحف قديما على تجميله.

خلال أسبوع أو أكثر بقليل كان المجتمع السعودي في مواقع التواصل في جدل افتراضي لا نجد له خارج هذه المواقع كبير عناية، إذ اعتاد هذا المجتمع حل مشاكله افتراضيا في غياب الحلول العملية، والجدل الذي يحصل كان يمكن تجازوه لو أنه قام وفق أسس قانونية، يستطيع الإنسان تحقيق حريته وحقوقه الفكرية والإنسانية من خلالها، لذا لجأ المجتمع في ظل غياب هذه القضايا إلى الحل الواقع والعملي قانونيا ونظاميا لمدى عرقلة الكثير من البيروقراطية عن أخذ حقوق الناس، فضلا عن بعض الخلل النظامي، وعلى ذلك تحولت مواقع التواصل إلى أشبه ما يكون بـ"فش الخلق" أو صحف بديلة للمواطن "الغلبان" الذي لم يجد مكانا يكتب فيه إلا في هذه المواقع.

ولعلني أختار أربع قضايا اشتهرت خلال الأسبوعين الفائتين بحيث يمكن رصد جدال المجتمع كمحاولة لفهم حراك المجتمع على صعوبة الجمع بين تلك السياقات من خلال القضايا التالية:

القضية الأولى: شكل فوز طيب رجب إردوغان بالرئاسة التركية جدلا متكررا حول الإسلامية والعلمانية، رغم أنه لا هي بالعلمانية ولا الإسلامية التي تتناسب مع أفكار الخطابات الليبرالية والإسلامية المتصارعة في المجتمع السعودي، فالعلمانية تقبل وجود كافة الخطابات، بما فيها الإسلامية، ولا تنفيها في حين يحاول بعض الليبراليين نفي الأسلمة عن الديمقراطية، كما أنها ليست الإسلامية التي يريدها الخطاب الإسلامي في السعودية كون إسلاميي تركيا متصالحين مع العلمانية، وهذا ما يشكل حالة من المفارقة في سياق الصراع الليبرالي/ العروبي/الإسلامي في السعودية، والقضية برمتها ليست إلا مناكفات خطابات متأدلجة لا يهمها غير الانتصار الوقتي لذلك التيار عنادا بالتيارات المختلفة التي تناصبها العداء.

القضية الثانية: أجبرت الشركة العالمية لمطاعم ماكدونالدز في السعودية أحد المواطنين عن التراجع والاعتذار السريع عما نشره من خبر في تويتر حاول أن يوثقه بالصور مدعيا فساد مستوى النظافة في أحد مطاعم الشركة في إحدى مناطق السعودية، وسواء كان ادعاؤه صحيحا أو محاولة للتشويه، إلا أن سرعة الاعتذار ينم عن قدرة الشركات الاقتصادية الكبرى في السعودية على التأثير، ومن حق الشركة أن تدافع عن نفسها متى ما وجدت أن الدعوى مزيفة أو محاولة تشويه، ولكن سرعة اعتذار المواطن صدمت المجتمع وجعلت القضية في محل الشك. وهذا يجعلنا نفكر جديا في السوق العالمية وكيف لها تأثير في بنية المجتمعات حتى تلك المجتمعات التي تتسم بالدستورية والقانونية.

القضية الثالثة: ما انتشر صحفيا حول أن بعضا من رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستدرجون المقبوض عليهم من خلال الصور الخليعة، وهذا جعل الثقة في بعض رجال الهيئة معدومة من قبل المجتمع بحيث لم يعد الأمر إنكارا بقدر ما هو تصيد وعملية إيقاع متدرج ومتعمد للضحايا، وهذه في نظري حالة أشبه ما تكون بالسادية الاجتماعية - إذا صح الوصف - فعدد من رجال الهيئة يمارسون سلطة دينية والبعض يدافع عن هذه السلطة بشراسة دون أي اعتبار لحقوق الناس، مما يجعل من الأمر ليس عملا في إنكار المنكر وأمرا بالمعروف، وإنما شكل من ممارسة السلطة المطلقة توفرها فكرة النهي عن المنكر حسب نظرة هؤلاء، والنهي عن المنكر يمكن أن يصعد عند بعض المتطرفين إلى المفاصلة المسلحة مع المجتمع، كما كان ذلك في عهد المأمون، وكذلك في بعض رسائل جهيمان الذي احتل الحرم بداية هذا القرن الهجري، ولذلك فعدم كبح جماح الناهين عن المنكر يمكن أن يولد ما هو أسوأ من إيقاع الناس بالصور الخليعة، وقد حصلت عدد من القضايا هي أكبر من هذه القضية كمطاردات القتل مثلا وقد كتب الكثيرون عنها في وقتها.

القضية الرابعة: ما أثاره تصريح وزير الإسكان من استهجان اجتماعي واسع النطاق، حين اعتبر أن مشكلة الإسكان ليست مالية أو أراضي، بقدر ما هي فكر، وهذا التصريح فيه نوع من التهرب من المسؤولية في حل قضية ما زالت مستعصية على الحل وهي أكثر ما يشغل المجتمع، إلى جانب التعليم والصحة طبعا، ولعل تصريح الوزير يصعب من حالة الحل أكثر، حيث إن فكرة "الفكر" لا يمكن أن تحل الواقع المادي إلا بحلول عملية لا تجدي معها التصريحات الصحفية المثيرة للجدل.

هذه القضايا الأربع تكشف عن مدى الخلل الاجتماعي وارتباكه الرسمي والاجتماعي على حد سواء، من خلال مفارقات عجيبة، وهي أشبه ما تكون بكوميديا سوداء، ويصعب الجمع بين هذه القضايا في سياق واحد كونها متشتتة، وكل موضوع لا صلة له بالموضوع الآخر، إلا أنني أزعم بأن المشكلة تكمن في غياب الإرادة الاجتماعية بحيث تكون هي السلطة القانونية بحيث يستطع المجتمع أن يكون مراقبا اجتماعيا على كثير من أموره بحيث يتحول المشهد المحلي المرتبك إلى فاعل حقيقي يصنع حياة أفضل، وليس فقط الاكتفاء بالإدانة الافتراضية في مواقع التواصل الاجتماعي.