كلما تحدثتُ إلى الدكتور عبدالله الغذامي، وجدتُ لديه شيئاً جديداً يريد أن يقوله أو "يفجره" بلغة بعض الصحف.. وكلما تحدثتُ إليه شعرتُ أنني أقترب منه أكثر، أو ربما فكره هو الذي يقترب.. هو شخصية إشكالية جدلية لكنها مبدعة بحق، فهو قادر على تجاوز الزمن والمرحلة والابتعاد نحو الأمام دائماً في رؤاه وأفكاره.
ليعذرني الدكتور الغذامي لو قلتُ إنه يمتلك القدرة على إشغال الوسط الثقافي والفكري كله لو أراد، وما كتابه "حكاية الحداثة" إلا مثالٌ على ذلك حيث جعل الجميع ينشغلون به حين أصدره، وانطلق يبحث عما بعد حكاية الحداثة، ليخرج بكتبه الأخرى تباعاً.
أقرأ كتبه فأجده يدخل في الجزئيات الصغيرة ليستنبط منها أشياء كبيرة.. ويكتشف أموراً لا تخطر ببال أحد.. كما في تحليله لحكاية "الفتاة والجرجوف" الشعبية في كتابه "ثقافة الوهم" إذ يستنبط منها أن الرجل يتمثل للأنثى على أنه وحش يريدها للبيت وللمتعة ومن أجل ذلك يصبح وسيما يسمح لها بكل شيء عدا دخول عالمه السري الخاص.. والمثل المتداول "عاد بخفي حنين" يتحول عنده في كتاب "القبيلة والقبائلية" إلى احتفالية بقصص الغدر والخيانة بدل المعنى المتعارف عليه. وفي كتاب "حكاية سحّارة" الكثير مما أورده ويستدعي الوقوف والتأمل..
أتخيل أحياناً أن الدكتور الغذامي ينتمي لتيار ليس فيه سواه، فالواضح لمن يتابع الحركة الثقافية أن التيارين السائدين في السعودية لا يرتاحان لطروحاته، وهو من الممكن أن يختلف مع الجميع.. ولا أبالغ لو تخيلت في لحظات أنه قد يختلف مع ذاته، كي يجادلها ويخرج برؤية جديدة. وللغذامي العديد من الخصومات أو المعارك الفكرية مع مثقفين ومفكرين كبار، لكنه كان راقياً في كل خلافاته واختلافاته، فلم يهبط بالحوار أبدا، وهذا ما يجعل كل خصومه يحترمونه.
يخطئ كل من لم يقرأ كتب المفكر الغذامي ويغوص في أعماقها... لأنه عند القراءة سيدخل في عالم مختلف عن السائد من حيث التحليل والتأويل، وسيكتشف نمطاً من التفكير يسابق الزمن للوصول إلى ما لم يكتشفه أحد..
ويخطئ الغذامي نفسه إن لم يتفرغ لصناعة نظرياته النقدية الخاصة بمصطلحات خارجة عن "النسق"، ويمارس عليها إسقاطاته التطبيقية وهو مؤهل لذلك. فالأدوات التي يمتلكها، يستطيع أن يرتحل بها إلى عالم ما بعد الحداثة ليأتينا بما لم تستطعه الأوائل.