إن كنت من الذين يعشقون الثقافة، ويمضون كثيرا من وقتهم في المطالعة ليس فقط بين دفتي الكتاب، بل أيضا الإبحار داخل النت للاطلاع على آخر ما يقدم من التقارير والمقالات والمداخلات التي ترافقها من القراء، أو تتابع النقاشات لتبقى على صلة بما يطرح من آراء وأفكار وتفاعل المتابعين أو أعضاء مجموعة ما، وإن كنت ممن يدقق في المفاهيم والمعاني والبناء المنطقي، فلا بد أنك صدمت كثيرا من طرق العرض والنقاش التي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها لا تنتمي إلى المنطق بشيء!

سأترك للقارئ أن يستنتج بنفسه ما أعنيه بعد تقديم بعض المغالطات المنطقية التي يقع فيها كثير حين يعرض أو يناقش أو ينتقد أو حتى يؤيد فكرة ما، فمن البداية ماذا نعني بالمنطق؟ أبسط تعريف: "أن المنطق هو قانون التفكير الصحيح"، وكأي قانون له بنود إن تدربت عليها واتبعتها، ساعدتك على التوصل إلى الاستنتاج الصحيح حتى لا تنحرف في التفكير فتحسب ما ليس بنتيجة نتيجة، أو ما ليس بحجة حجة، وعادة ما تتكون الحجة المنطقية من معطيات ونتيجة؛ أبسط مثال: معطيات "كل البشر هالكون، فلان من البشر"، النتيجة "إذًا فلان هالك"، والحجج المنطقية لا تعمل إلا إذا بنيت على حقائق موضوعية خارج إطار المشاعر والوجدانيات، ويعتبر المنطق قلب التفكير الناقد الذي يُمكّن الفرد من الحكم الموضوعي، وأدوات التفكير لا تفيد بشيء إن كان مخزون المعلومات لدى المستخدم فارغا أو ضعيفا، بمعنى أنك لا تستطيع أن تنتج فكرا إن لم تكن لديك المادة.

هنا نأتي إلى المغالطات المنطقية التي تحدثت عنها سواء في المعطيات أو النتائج أو أشكال التفاعل والرد؛ ما يفعله البعض أنه حين ينظر إلى الأمور عادة ما يركز على النتائج وينطلق منها، لا يأخذ وقتا للتفكير في المعطيات والتأكد من صحتها؛ فمثلا يتصرف كمن ينظر إلى أوراق الشجر وكأنها مادة مستقلة غير مرتبطة بشيء أتى قبلها، ألا وهو الغصن وهو مرتبط بالجذع وهذا بدوره مرتبط بالجذر، بمعنى أنه لا يبحث عن الأصل، بل إنه أحيانا يضع المبررات من عنده ليفسر أو ليدافع عن المنتج، لأنه أتى على هواه أو مما يعرف أو يؤمن به، وربما لأن من قدم هذه الفكرة أو المعلومة شخصية يثق بها ثقة عمياء، إما بسبب الشهادات التي تملكها أو شهرتها أو مركزها أو مستوى ثقافتها، والعكس صحيح قد يرفض النتيجة كلية لأنه يرفض مقدم الفكرة علما ومكانة وثقافة، المهم أنه في كلتا الحالتين لا يبحث ولا يدقق في المعطيات، وأحيانا يكون الخلل في عدم الترابط بين المعطيات والنتيجة، مثلا أن يقول أحدهم إن البلد "ج" من أعدائنا، والحادث "ص" تسبب في أذى للمواطنين، إذًا البلد "ج" هو من تسبب في الأذى! ثم هنالك التحريف مثل أن يقول أحدهم: "نحتاج إعادة بناء المناهج معتمدين على آخر ما توصلت إليه العلوم التربوية عالميا"، فيكون الرد: "على ما أعتقد بأن ما يرمي إليه فلان هو الدعوة إلى التغريب وتهميش الهوية لدى أبنائنا من التلاميذ والطلبة"! أو ربط حدث كنتيجة لحدث قبله كأن يقول أحدهم: "إن سبب ارتفاع نسب الجريمة هو قرار إغلاق الحدائق العامة"!

وهنالك من يلتمس المشاعر في عرضه لقضية ما كأن يقول: "إن من لا يعدد يصبح مُدجنا ويتعرض للأمراض ولا يكون سيد منزله"! وهنالك الشخصنة بمعنى أن من لا يجد لديه الرد المنطقي يحول الانتباه بالهجوم على الشخص الذي قدم الفكرة بأن ينعته بالأوصاف التي لوثت مفرداتنا، ولا يزالون كل يوم يتحفوننا بكل ملتوٍ وبذيء منها! أو حجة توقع الأذى كمساندة عدم تعليم المرأة لأنه قد يؤدي إلى مفاسد، وماذا عمن يقول: "لم أسمع به إذًا هو غير موجود أو لم يحدث"، بمعنى أنه يربط حجة بجهله أو قلة معرفته! وحين يحاصر أحدهم بالأدلة على الأخطاء التي ارتكبها في عرضه للمعلومات يرفض الاعتراف بالخطأ، بل يضع الأعذار مثل: "كنت مرهقا أو ليس لديكم العلم الكافي لفهم وإدراك المفاهيم التي قدمتها"! والذي يذهلك بمنطقه فعلا هو من يضعك أمام خيارين: "إن لم تكن معنا فأنت مع العدو"! ألا يمكن أن أكون لا أشاطرك الرأي وبنفس الوقت لست مع العدو، بمعنى ألا يمكن أن يكون هنالك احتمال ثالث؟!

وأخيرا تجد من يتلاعب بالمعطيات حين يستعرض الإحصاءات أو التصريحات التي تتماهى مع حجته ويتغاضى عن باقي المعلومات بحيث يختار ما يلائم ويدعم حجته، ويتغاضى عن الباقي رغم تواترها في عدة مصادر، لأنها متى ما ذكرت نسفت حجته بأكملها!

في هذه الأيام كثيرا ما نشعر بالإحباط ليس فقط حين نجد أن ما يقال خطأ، ولكنه أيضا بني على مغالطات منطقية! بمعنى أن الحجة لا تقوم على المنطق ولا تستند إلى وقائع، حتى إن بعض العبارات تبدو أحيانا وكأنها غلفت برداء من الجهل والبلاهة! وهنا يصل الحد بك إلى أن تضغط على أعصابك كي لا تدخل في نقاش عقيم قد يدفعك إلى التلفظ بما قد يجرح، وهذا لا يمثل مبادئك أو أخلاقياتك! فتقول لنفسك كما قال أبو نواس يوما: "سر يا حصاني قبل أن يطول لساني"!