وقعت مؤخراً على مصطلح (الإفراط في العقلانية) في سياقين مختلفين. حيث استعمله (مانفرد شنايدر) صاحب كتاب (الاغتيال) فهو يصف الأفراد المندفعين لاستعمال الاغتيالات كوسيلة لتغيير العالم بأن أغلبهم يكون تحت تأثير البارانويا (جنون الارتياب أو الاضطهاد)، ولكنه يقول مع ذلك: "يُعتبر كل منفذ عملية اغتيال مراقباً دقيقاً يفسر الإشارات والحوادث. فلا يحدث أمر ما صدفة في رأيه. يبحث في العالم عن النوايا العدائية ويتخيّل أن المؤامرات تُحاك في كل مكان، قد نصف نحن النتيجة بالمجنونة، على رغم ذلك، يشكّل المنطق والعقلانية مكوّنين رئيسين في الافتراضات التي يتوصل إليها القاتل وما يشعر به من ارتياب. وبذلك لا تكون البارانويا غير منطقية، بل إفراط في العقلانية".


كما استعمل هذا المصطلح (رونالد وينتروب) في كتابه (التطرف العقلاني) أثناء محاولته لتفسير سلوك التنظيمات الراديكالية العنيفة، حيث لا يرى أن العقلانية هي ما ينقص سلوك تلك التنظيمات بل "إنها تتسم بفائض منها عندما ننظر إلى العقلانية بأنها الدقة في تسخير الوسائل من أجل الغايات".


لكي نفهم مقصود هذين المفكّرين علينا أن نعرف شيئاً عن المفهوم السائد تقريبا للعقلانية في العالم الغربي الحديث. العقلانية في الغرب مفهوم يتسع للوسائل والغايات القريبة الحسية ولكنه لا يشمل أي مدلول متعلق بالعلة البعيدة للوجود أو ما يسمى معنى الحياة. هم ينظرون إلى معنى الحياة كقضية اعتباطية يختارها الفرد دون أن يكون مطالباً بتبريرها للآخرين من منطلق نسبوي بحت. لذلك فالكاتبان في استعمالهما لهذا المصطلح بالمعنى الذي حدده كل منهما ليسا محقين فحسب، بل هما متسقان تماماً مع الفلسفة السائدة في مجتمعيهما وهذا خلاف طريقة الساسة الغربيين في استعمالهم الكلمات بشكل مطاط يسمح لهم بالكيل كيفما اتّفق عندما يطلقون أحكام الإدانة تجاه أي أحد.





الفارق بين التنظيمات الإرهابية والأنظمة الباطشة هو فارق اقتصادي في امتلاك الزمان والمكان، فوسائل كالاعتقالات ونزع الاعترافات بالتعذيب والضغط على الضحايا بالحصار والتجويع والإذلال، تستعملها الأنظمة الباطشة لوفرتها وجدواها الاقتصادية، في حين أن استعمالها غير متاح بنفس القدر للتنظيمات الإرهابية، وذلك ما يدفعها تحت إجراءات حسابية توازن بين الطرق والأهداف إلى اختيار ما هو أكثر فاعلية وأقل تكلفة كالقنابل البشرية مثلاً، يحدث كلّ هذا مع شبه استبعاد لشكل الأيديولوجيا المؤسسة لذلك التنظيم. هذا ما يفسر تشابه سلوك التنظيمات الراديكالية رغم اختلاف عقائدها. فالعمليات الانتحارية التي يظن البعض أنها امتياز سلفي جهادي كان أول من اشتهر بتنفيذها في المنطقة هو بعض التنظيمات الراديكالية الشيعية، ولكن أكثر من عرف باستعمالها على مستوى العالم هو تنظيم (نمور التاميل) الماركسي في مواجهاته مع النظام (السريلانكي)، كما شهد القرن الأخير تنفيذها على يد عدة جهات لا يجمع بينها رباط أيديولوجي مشترك.


قد يتساءل البعض قائلاً: حسنا، فلنسلم أنه سلوك عقلاني ولكن لماذا هو مفرط في العقلانية؟ من الممكن أن نحصل على الإجابة من خلال التذكر بأن العقلانية ليست هي العنصر الوحيد الذي يشكل ما هو إنساني، فهناك ما له علاقة بالغرائزية، كما أن هناك ما له علاقة بالجمالية والأخلاقية وهو الأهم. من المفترض بكل عنصر من عناصر التكوين الإنساني أن يكون ضمن نطاق طبيعي يساعد على الاتزان مع العناصر الأخرى. يصح ذلك على المجتمعات كما يصح على الأفراد.


عندما يتصرف الإنسان بشكل يراعي تسلسل الأسباب والنتائج ويعطي ذلك الأولوية في تحقيق مراده متجاهلاً في سبيل ذلك (ما ينبغي تجنبه لأسباب تتجاوز مجرد المنفعة) فهو مفرط في العقلانية كما يراه أصحاب هذا المفهوم، ينطبق هذا على الأنظمة الباطشة كما ينطبق على التنظيمات الإرهابية. درس شنايدر سلوك الأفراد المدفوعين بأهداف ذاتية في الغالب أثناء تورّطهم في جرائم الاغتيال. بينما درس وينتروب سلوك التنظيمات الراديكالية المتورطة في استهداف المدنيين أو على الأقل عدم الاكتراث بتضررهم من العمليات التي تقوم بها.


هناك علاقة نظرية في تصوري بين البحثين وهو أن (البارانويا) التي يقول بها شنايدر في سلوك الأفراد لا بدّ أن يكون لها نظير سوسيولوجي في سلوك التنظيمات الراديكالية، وإلا لفقدت الدافعية في استمرارها، والبارانويا الجماعية التي أعنيها هنا هي القناعة الناظرة للعالم برؤية ثنائية يرى التنظيم نفسه ممثّلاً للطرف المكتمل الخيريّة ضدّ بقية العالم المتآمر عليه دون تمييز، وهي القناعة التي نستطيع تبين أعراضها في كلّ التنظيمات التي تناولها وينتروب في كتابه. ولكن ما شأن التبريرات النظرية والنصوص الدينية التي تصدح بها التنظيمات الإرهابية بعد تبنيها لكل عملية من عملياتها؟ ألا يمكن أن تشكّل محركات حقيقية لتلك العمليات؟ بحسب الأطروحة من المفترض ألا نرى في تلك التبريرات والنصوص أكثر من أغطية أيديولوجية دعائية ليس لها دور حقيقي في صنع الحدث، إذ لا تهدف في الغالب إلى غير التذكير الدائم بمرجعيتها المشكلة لهويتها، حيث تأمل بهذا عدم فقدان التعاطف من قبل شركاء الهوية، كما ترجو به استقطاب المزيد من الكوادر المتعاطفة. وهذا مشابه تماماً لما تفعله الشخصيات المصابة بالبارانويا بعد ارتكابها لجرائمها الفردية في العادة. فكروا فيها من جديد: إفراط في العقلانية وليس انحرافا عنها، هل الأمر كذلك بالفعل؟