إن القربان الوثني القديم لم ينته ولن ينتهي، فما كانت الوثنية القديمة تقدمه من أبناء أتباعها لأجل الأنهار لعلها تفيض والسماء لعلها تمطر، ما زالت البشرية تقدمه وفق معطيات أخرى، فقرابين الدم لا تتوقف، والحضارة الأعلى تعرف هذه الأثمان فتتجنب الاشتباك مع وثنيي العصر الحديث، لتستخدم صواريخ تطلقها من البحر، وطائرات بلا طيار، إنه الرجل الأبيض يهرب من فأس الهندي الأحمر، ليطلق عليه من بعيد رصاصة تُردِيه، الهندي الأحمر ما زال يعتقد أن وحشيته في قطع فروة الرأس ستجلب له النصر، وليكتشف متأخراً أن صراع الرجل الأبيض ليس مع طوطمه القديم، لكنه صراع اقتصاد وسياسة، مصالح ومنافع، نفوذ وطرق تجارة.
الهندي الأحمر في القارة الأميركية لم يستطع أن يكون كالهندي في القارة الآسيوية ولم تشفع له حضارة المايا العتيقة، لأنه لم يستطع أن ينجب غاندي الذي درس في إنجلترا ومارس المحاماة ولغة القانون، ليصنع باللاعنف ما عجز عنه الهندي الأحمر بسلخ فروة الرأس، لأن الهوية البدائية لم تدرك الفارق الكبير بين فأسها وسكينها وبنادق الرجل الأبيض، أقصى ذكائها أن تشتري بندقية الرجل الأبيض من نفس الرجل الأبيض لتحاربه بها، ولم تفكر في انقطاع الذخيرة، وألاعيب المدد؟! بينما الهندي الآسيوي ممثلاً بغاندي الأسمر يفخر بأحفاده الآن، وها هي الهند تفخر بنفسها كلاعب جديد وفاعل في المستقبل القريب.
العلم يا سادة، العلم هو الفيصل، المعرفة، إرادة الحياة، يقترحها الرجال المصلحون لتجتمع أكثر من مئة ديانة وعرق ولغة في بلد اسمه الهند فيصنعوا الفرق، ليسوا كاملين لكنهم نحو الكمال سائرون، وغيرهم يغرق في شبر ماء لعرق أو طائفة.
عندما يحصل تفجير المساجد في الشرقية أو عسير أو نجران على يد هؤلاء (الوثنيين) يستبيحون الدماء لأجل طوطم (الحاكمية) وتأتي ردود الفعل الشعبية من جميع أنحاء المملكة مستنكرة هذه الأفعال البربرية، أشعر بطمأنينة إلى حد كبير، يستدعي تلقائياً طرح مشروع الوحدة الوطنية لمنع بث الكراهية والقبول بالتعددية، كمرحلة طبيعية في تطور الدولة الحديثة، لكن عندما يتم إسقاطه في مجلس الشورى، فإني أدرك كغيري أن السيناريو القادم لما بعد انطفاء جذوة الاستنكار يجب أن يطرح بشفافية.
الأمور ستبقى بخير ما دامت الجماهير في عموم المملكة تتناغم مع مصالحها الفطرية في الالتفاف حول منطق الدولة في (احتكار العنف)، حيث تضغط الجماهير بوعي شعبي عال على بعض الرموز باتجاه استنكار هذا الحدث، ليستنكر من استنكر عن صدق أو دغل لا يهم، المهم أن تبقى جذوة الاستنكار مشتعلة كواجب وطني، المخيف أنه مع تكرار هذه الحوادث لا سمح الله، مع عدم طرح مشروع يضبط إيقاع المجتمع ويوحد بين أطيافه ويؤسس لقبول التعددية أمام السلطة المحايدة، فإننا قد نرى خفوتا في التفاعل الشعبي مع أي حدث قادم من قبل (داعش أو غيرها) ليصبح الأمر عادياً، وعندما يصبح الأمر عاديا في النفوس، فإن المرحلة التي تلي هذا البرود الشعبي، تعني ولادة مزاج واسع للاجتهادات الشخصية التي لن تأخذ في الاعتبار مفهوم (احتكار السلطة للقوة اللازمة لحفظ الأمن) لتصبح الاجتهادات الشخصية للأفراد على مستوى الطوائف أو القبائل إرباكاً يولد واقعاً جديداً (لا يؤمن باحتكار السلطة للعنف) لتبدأ الاجتهادات الفردية التي قد تصل -لا سمح الله- لإرهاصات ميليشيا على مستوى القبائل والمذاهب أيضاً، وطبعاً (صناعة التوحش) هدف استراتيجي تسعى له "داعش" بكل جهدها، وتنوع ضرباتها هنا وهناك، يدل على استماتتها في خلق هذا الواقع المتوحش.
وجود قانون لحماية الوحدة الوطنية لتجريم نشر الكراهية سيسمح بخروج القيح الفكري والاحتقانات الشعبية إلى السطح عبر الترافع القضائي في أروقة المحاكم وفق قانون مكتوب خاضع لمفهوم الدولة واحتكارها لحق استعمال العنف، وهذا السلوك في الترافع القضائي لمظاهر الاحتكاك الإيديولوجي بين الفئات الاجتماعية المتعددة، خير من تغطية القروح بشاش من عبارات تطييب الخواطر، لتستمر بكتيريا داعش في التغرير بشاب هنا أو هناك مما لا يمكن ضبطه ولا رؤيته لأنه من قاع الجرح يولد وفي قاع الجرح يختفي، فهل ننتظر الغرغرينا؟! بالإضافة إلى تضييع وقت النخبة بكل ألوانها وأطيافها من كل التوجهات في تبادل التهم.
المواطنة هي الفيصل، أما الاستنباطات الشرعية العقائدية لهذا الفصيل أو ذاك فهي في الحقيقة جزء من المشكلة وليست الحل، فالتخريجات الفقهية لا تنشئ وطناً يحوي مختلف المذاهب، فالدولة الحديثة تقوم على عقول الساسة وليس على أقوال الفقهاء، والناس أمامها سواسية في الحقوق والواجبات مهما اختلفت مذاهبهم وقبائلهم وعاداتهم، فما نحتاجه هو سيادة القانون وفق مفهوم المواطنة، ولسنا بحاجة لتخريجات فقهية ما زالت تعامل جوزيف الأميركي وفق معيار أهل الذمة، فهل نمنح جوزيف إذا أسلم حقوق المواطنة السعودية لمجرد الديانة؟! إذاً فمحمود العربي من حقه أن يستوطن عندنا بلا رخصة إقامة لمجرد الإسلام! فكيف بنا إذا جاء المسلمون للحج أفواجاً دون نظام الجنسية المعترف به دولياً! إنها فجوة التاريخ في العقل التراثي، عندما يعجز عن ردمها فيغفل عن واقعه، ثَمِلاً بأمثولة افتراضية لتراث قديم، عجز أهله في عصورهم الذهبية أن يحسموا قضايا حكمهم فيه، إلا بالسيف يضربون به رقاب بعضهم البعض، في معارك نصمت عن نبش تفاصيلها.
إذاً فالمواطنة مفهوم يشمل كل من يحمل جنسية هذا البلد وفق نظام الجنسية السعودية، وليس وفق مسائل أهل الذمة في دار الحرب ودار الإسلام قبل ألف عام، ومن يعجز عن استيعاب مفهوم المواطنة إلا بتأصيل شرعي، فعليه بوثيقة الرسول الكريم لأهل المدينة على اختلاف مللهم، فلعل فيها ما يقرب الفهم لمن يعجز عن رؤية الواقع بعينه، رغم أن الواقع لذوي الألباب لا يحتاج تأصيلاً بقدر ما يحتاج وعياً بمسألة الوطن، والتوقف عن صرف أوهام الملاحم في القادسية واليرموك على رؤوس الدهماء، فقد صرفها المستبد صدام حسين للحمقى والسفهاء وصولاً إلى أم المعارك، وما أكثر الملاحم تصرفها داعش وأمثالها لكل أحمق وغبي وبليد.