أ ـ في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر 2015 دخل المفاوض الإيراني رسميا مع مجموعة المفاوضين العالميين حول سورية.. ومع دخوله يحضر بالضرورة سؤال عن الثقافة التفاوضية لإيران، وقد مر على إيران تجارب عنيفة في التفاوضات، أولاها كانت مفاوضات إنهاء الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات من القرن الماضي، وثانيتها مفاوضات النووي،وكلتاهما انتهت نهايات مثمرة ولو ظاهريا.
لكن واحدة كانت نهايتها: تجرع السم (حسب مصطلح الخميني الذي قاله وهو يوقع اتفاقية وقف الحرب حينها)، أما الثانية فانتهت بابتسامات من خامنئي.
والفرق الذي حدث فيما بين السم والابتسامة هو ولا شك جذري يتحتم الوقوف عليه للتعرف على العقلية التفاوضية الإيرانية.
ب ـ نبدأ من السم الذي تجرعه الخميني، وهو سم جاء نتيجة الحس بأنه كسر شرط نظرية (تصدير الثورة)، وما كان للثورة حينها أن تحقق نظريتها الجوهرية في عقيدة التصدير إلا عبر إلحاق هزيمة قاصمة للعراق، كي تنطلق جحافل الثورة الخمينية وعينها على شواطئ البحار الغربية، ولكن الخميني استسلم للظرف وأوقف ثورته عند حدود بلده الجغرافية، وإن ظل يدفع بها تسللا في ظلمات دهاليز الأرض، عبر خلايا ظل يسميها بحزب الله: حزب الله العراق، حزب الله لبنان، إلخ منظومة التفريعات وعملها السري والتكتيكي الذي هو من ثقافة الخلايا وبها استمر مشروع نظرية ولاية الفقيه وثورته الموعودة.
كسر الخميني عزيمته حينها لأنه أحس بعجز تام عن اختراق الحد العراقي في ذلك الوقت، وأنهكته الحرب على مدى ثمان سنوات عجاف، أدرك بعدها أن لا سبيل له لاختراق الحصون الشرقية للوطن العربي، لذا دفع نفسه إلى تجرع السم ووقع مكرها وأبقى على خياراته الأخرى في وسائل تصدير الثورة وتعميم ولاية الفقيه كونيا مرورا بالعرب أولا، وهم الهدف المباشر ثم تأتي بقية الشياطين حسب مقامها في وزن التسميات وظروف التسمية.
وهنا كانت النهاية بسبب الحس التام بالعجز التام، وهذا معنى السم الذي تجرعه الخميني، أي أنه ساوم على نظرية الولي الفقيه تحت الظرف القسري. ولولا قسرية الظرف لما كان له أن يعطل جيش الوعد.
ج ـ في حالة خامنئي مع اتفاقية النووي كان المرشد نفسه قد صرح مرارا أن القنبلة النووية لا تجوز في الدين الإسلامي، وظل يردد هذا التصريح على مدى سنوات، ويتظاهر تبعا له أن إيران لا تهدف لإنتاج قنبلة نووية، وهنا لن تدخل فكرة القنبلة تحت عنوان نظرية الولي الفقيه، على عكس مقولة تصدير الثورة، وهذا هو الفارق الجذري بين ابتسامات خامنئي، وسموم الخميني، وهو فارق بين شرطين، شرط تصدير الثورة وشرط التفاوض السياسي الحر والذي يسعى لكسب مواقف سياسية واقتصادية وعلاقات دولية عامة.
د ـ في التفريق بين هاتين الاتفاقيتين: اتفاقية السم واتفاقية البسمات سوف نفهم العقل التفاوضي الإيراني، وهنا سيكون السؤال عن سورية... هل سورية تدخل فيما ليس بجائز في الإسلام كمثال القنبلة النووية المحرمة شرعا، حسب فتوى خامنئي، أم أن سورية تندرج تحت عنوان (تصدير الثورة)، وحينها لن يوقع المرشد على ورقة تخص سورية مع ابتسامة سياسية تنهي ملحمة التفاوض.!
الذي تقوله مسيرة الأحداث هو أن سورية هي أرض المعركة الموعودة في نظرية الولي الفقيه ومن ثم فإن التنازل عن هذه المعركة لن يتم، حسب القياس المفاهيمي إلا إن تكرر الظرف القسري الذي وقع فيه الخميني مع العراق حين أحس بعجزه التام عن المضي في مشروعه وحينها وقع وهو يتجرع السم ولم يوقع مبتسما.. هذه صيغة ثقافية لها علاماتها الواقعية التي تكشفها المقارنة بين حالين صارتا فعلا وواقعا.
هـ ـ ستأتي إيران لطاولة المفاوضات حول سورية، وسيكون عنوان خطابها منصبا على أن المشكلة هي الإرهاب، وأن المنطقة العربية لن تخلص من معضلتها إلا بعد القضاء على الإرهاب. وهذا عنوان ستجد إيران من يؤيدها فيه، وهم كثر، عالميا وعربيا.
ثم ستنتقل إيران لخطوة أخرى وهي تعريف الإرهاب وتعريف الإرهابي....! وهنا مربط حصان (تصدير الثورة)، وسيكبر هذا الحصان الطروادي ليتسع مفهوم الإرهاب حتى ليشمل حشود الانتفاضة العراقية ضد الدولة الفاسدة الخائنة، وكان شعارهم: إيران برا...برا.. العراق حرا.... حرا...
هذا شعار لن ترضاه إيران كما لن ترضى بمظاهرات بيروت التي تقول: كلكن يعني كلكن، وهو شعار يشير لأصحاب العمائم مثلهم مثل أصحاب الكرافتات.
تلك أصوات تهدد مشروع تصدير الثورة، بل إنها تلغيه وتوقفه عند حدود ولاية المرشد جغرافيا وليس عقديا، أي الحد الجغرافي لولاية إيران.
وهنا يعود القانون التفاوضي الأصلي، وهو أن إيران لن توقع على اتفاق يخص سورية إلا عبر تجرع السم، أي عبر الإحساس أنها لم تعد قادرة على المضي في مشروع الهيمنة، وإذا لم تشعر بالانكسار والعجز فإنها لن تسمح باتفاق يحل المشكلة السورية إلا إذا هي ضمنت تأمين مصطلحها الخاص حول معنى الإرهاب، بحيث يكون المعنى شاملا لكل فئة تعارض الاستعمار الإيراني الخميني للمنطقة، ولسوف تسعى لطرح تعريف للإرهاب لن يشمل (حزب الله) مثلا، ولكنه سيشمل الجماهير الثائرة في العراق وبيروت وكل عنصر وطني يرفض المستعمر الإيراني وأعوانه، وهذه هي الصيغة الوحيدة التي تتفق مع نظرية الولي الفقيه، ولن يتنازل المرشد عن وظيفته ما لم يشعر أنه لم يعد قادرا على تصدير ثورته، وحينها سيتكرر موقف تجرع السم.
و ـ بقي أن نتذكر أن كل من يعاند تصورات المرشد سينتهي في المنفى المعنوي، كما حدث لرفسنجاني وخاتمي وموسوي وكروبي، ولو فكر روحاني وظريف أن يعاملا التفاوض السوري معاملة سياسية واقعية فمصيرهما سيكون مثل سلفهما السياسي والذي لم تنفعه تلمذته على الخميني ولا إخلاصه للثورة وللعمامة بما أن أي خروج على خط قانون الثورة ونظريتها الأصل سيكون سما لا يمكن تجرعه إلا بعد اضطرار ظرفي وقسري بأن تعجز الثورة عن السير في أرض عربية ترفض المستعمر مهما كانت صيغته الاستعمارية أو سحنته أو لون عمامته.