إن بين السياسة والإعلام علاقة معقدة وعميقة. هما متلازمان دائما، وكل منهما يحاول أن يقطر الآخر بالاتجاه الذي تكون فيه مصلحته.
وإذا راقبنا تطور هذه العلاقة بدقة نجد أنه عندما يصنع الإعلام السياسة يسود الاضطراب والفوضى وربما النزاعات المسلحة، لأن الإعلام يسعى دائما إلى توسيع قاعدة قراء الصحف أو سماع الإذاعات أو مشاهدة التلفزيونات وأيضا وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يرتفع اهتمام عموم الناس بمتابعة الأخبار في أزمنة الأزمات والفوضى والقلق، فترتفع أعداد القراء أو المستمعين أو المشاهدين، وهذا يعتبر رواجا مهنيا وتجاريا للإعلام. وهذا ما يجعل السياسة تتراجع إن لم نقل تبطل وظيفتها.
أما عندما تصنع السياسة الإعلام ويصبح صدى لها، فالمعايير تتغير ويتحول الإعلام من صانع للخبر إلى باحث عنه. وعموما تكون السياسة أسرع بكثير من الإعلام واهتماماته الإخبارية، لأن وظيفة السياسة هي صناعة الاستقرار والتقدم والبحث عن مكونات الضعف لمعالجتها ومكامن القوى لدى المجتمع لتنميته وحسن استثماره، أي أن السياسة تسعى إلى تعميم السكينة والانتظام للمجتمعات، مما يدفعها إلى متابعة أمورها الاجتماعية والاقتصادية والانكفاء إلى حد بعيد عن الأخبار المثيرة أو المخيفة.
نشهد ذلك بوضوح في تطور الإعلام الغربي، إذ أصبح يميل نحو مراكز الأبحاث التي هي من يصنع السياسة في المجتمعات الغربية. ولا يستطيع الإعلام العبث بالحقائق التي تقوم على الأرقام والنسب صعودا أو هبوطا، بل على العكس يذهب الإعلام الغربي إلى الحوارات المتخصصة. أما بالنسبة للحروب والنزعات فهي عموما تدور في مناطق بعيدة عن جمهوره، لذلك يعتبرها مادة خصبة لتوسيع تدخله في صناعة سياسات مجتمعات النزاعات. وهنا نجد تأثير وكالات الأنباء الأجنبية في النزاعات التي تدور في أكثر من مكان في هذا العالم.
لا بد لنا من مناقشة كل أشكال التعبير والتأثير التي تتحكم في وعينا وإدراكنا لما يدور عندنا أو حولنا. وهنا تأتي هذه المحاولة للتمييز بين الإعلام والسياسة، وكيف يكون حالنا في حال تقدمت السياسة على الإعلام أو العكس، وكيف أن استقرارنا وانسيابنا الطبيعي يكون عندما تتقدم السياسة على الإعلام. وهذا ما نشهده هذه الأيام من تحركات سياسية مكثفة وحقيقية لم تكن في دائرة توقعات الإعلام المحلي والدولي، تماما كما حصل عشية الحزم في اليمن والذي فاجأت سياسة الحزم الجميع فيه، إذ إن حفظ الاستقرار في اليمن والخليج لا يعالج بالبيانات والتصريحات بل بالحزم السياسي.
لا داعي للحديث عن الدور الروسي في سورية لأنه لم يكن جديدا أو مفاجئا، لأن روسيا منذ بداية الأزمة في سورية كانت داعمة للنظام السوري في مجلس الأمن وكذلك في بيع السلاح. وحين يتطور هذا الموقف إلى حد التدخل العسكري يكون ذلك تطورا طبيعيا للموقف الأساسي، وكذلك بالنسبة إلى إيران فهي في الميدان السوري فعليّاً منذ بداية النزاع كما كان إحدى أوراقها الكبرى في التفاوض على برنامجها النووي.
السؤال الأساسي الآن هو إلى أين ستؤدي تلك الحيوية الدبلوماسية غير المسبوقة دوليا وإقليميا وعربيا فيما يخص أزمات المنطقة، لا سيما الأزمة السورية، إذ أصبح الجميع يدق أبواب الدول العربية القاطرة للاستقرار العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. ويشارك الجميع تقريبا في هذه الاتصالات، خصوصا بعد الاجتماع الرباعي في فيينا بين وزراء خارجية أميركا وروسيا والسعودية وتركيا، ثم اجتماع باريس الذي ضم الدول المؤيدة للمعارضة السورية المعتدلة، كما ضم فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا والسعودية وتركيا والإمارات العربية وقطر، ثم الاجتماع الثنائي السعودي - المصري بين وزيري خارجية البلدين، ثم الاجتماع الرباعي الثاني في فيينا وما تلاه من اجتماع للمجموعة المؤيدة للمعارضة السورية، ثم اجتماع موسع يضم إضافة إلى المجموعات السابقة كلاًّ من إيران ومصر والعراق ولبنان.
إن مجمل هذه التحركات غير المتوقعة تدل على تقدم السياسة على الإعلام في النزاعات، مما يضع النخبة الإعلامية أمام تحدٍّ جديد وهو التكيف مع السياسة وأحوالها. وإنني أعتقد أنه إذا توفرت القدرة الإعلامية على استيعاب التطورات السياسية المتسارعة فإن في ذلك انتظاما ضروريا من أجل التكامل في صناعة الاستقرار التي تحتاجها مجتمعاتنا المنهكة بالنزاعات على مدى عقود طويلة من الزمان.
أردنا من هذه القراءة أن نتوقف عند مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، بدعوة المثقفين والإعلاميين ورؤساء تحرير الصحف السعوديين إلى لقاء مفتوح ليتكامل الإعلام مع السياسة، واضعا إياهم في أجواء التطورات السياسية العربية والإقليمية والدولية، على قاعدة "أبوابنا وهواتفنا وآذاننا مفتوحة"، وليقدم نموذجا رفيعا في صناعة الاستقرار المحلي والعربي، وتأكيدا منه على تكامل السياسة والإعلام السعودي في صناعة الاستقرار.