إلى أين؟ لنتوقف حقّا ونفكر ولنسأل أنفسنا هذا السؤال، لنستخدم خيالنا ونخرج بأنفسنا إلى الفضاء ولنراقب هذه الأرض التي نعيش عليها، لنترك بقية المخلوقات من نبات وحيوان وحشرات ولنركز على الإنسان، هذا المخلوق الذي يبني ويدمر، يتواصل ويقاطع، يحمي ويقتل، يقدم الدواء وينشر الأوبئة، يقود إلى القمم ويدفع إلى الهاوية، يفكر لينقذ ويتحايل ليفرّق، يؤلف الإبداع كما يؤلف الإسفاف، يزرع ليغذي ويحرم ليتحكم، يشيد مصانع تنتج وتلوث، محبة تقابل بالكراهية، توعية تقابل بالتحريض، أناس يموتون من الجوع وآخرون من التخمة، أناس يتخلون عما يملكون من أجل الغير وآخرون يسرقون أملاك الغير لا لشيء سوى المزيد من الرفاهية! وهنا نسأل: إلى أين سيأخذنا هذا الإنسان؟
كنت أتحدث مع طالباتي عن مفهوم التحكم والسيادة، بمعنى من يتحكم بمن، ومن سيد من في هذه الأيام؛ الأجهزة الذكية أم الإنسان؟ سألتهن أن يتأملن الحرم الجامعي ويراقبن زميلاتهن وكيف يمشين أو يجلسن والرؤوس منحنية منكبة على هذا الجهاز، وأين يفضلن وضعه خلال المحاضرة في الحقيبة أم في أيديهن، وأين التركيز على العلم أم على ما يبثه إليهن، هل يعرفن عن زميلاتهن أو أسرهن أو حتى أنفسهن من خلال التواصل المباشر أم من خلال ما يأتيهن عبر الشاشة المصغرة؟ ليس فقط هذا الجهاز الذي أصبحنا نعتمد عليه، وهو سلاح ذو حدين، ولكن أيضا دخلت حياتنا أجهزة عديدة غيره، تسللت إلى حياتنا لتجعلها أكثر راحة ورفاهية حتى إن بعضها إضافة لتوفير الوقت والمجهود أصبحت تقوم بالتفكير عنا! حسناً... ماذا بعد؟!
لو أخذنا كل هذه التناقضات التي يمر بها العالم من تنافس وتناحر وحروب، وأضفنا إليها الاعتماد الواضح على الأجهزة، ماذا سيكون الناتج؟ ليس الآن ولكن على المدى الطويل؟ ربما، أقول ربما سيكون كما توقع هربرت جورج ويلز في روايته الخيالية التي صدرت عام 1895م بعنوان "آلة الزمن"، تحدث فيها عن مخترع لآلة الزمن التي أخذته إلى المستقبل حيث وجد نوعين من البشرية: الأول، وأطلق عليهم "الأيلو"، هم من ذرية الطبقة المرفهة بلا قوة أو ذكاء بمخزون لغوي بدائي وبلا تواصل أو مشاعر، والنوع الثاني، والذي أطلق عليهم "المورولوك"، هم من ذرية الفقراء الكادحين، يعيشون تحت الأرض، وقد تغيرت أشكالهم حتى أصبحوا أشبه بالحيوانات، وهم أيضا بمستوى ذكاء متدنّ بل ليس لهم لغة، يعملون بكد من أجل صناعة من يجعل "الأيلو" يعيشون برفاهية، يعلفونهم لاستخدامهم كغذاء! ويفسر ذلك بأن البحث عن الرفاهية المطلقة ومن ثم التوصل إليها، ومع تقدم الطب واختفاء الأمراض، أصبحوا بلا حاجة إلى التطور، أي لا حاجة إلى التفكير أو الخيال أو الإبداع، بمعنى لا بناء أو تنافسا أو حضارة، وبدلا من التقدم قادت البشرية نفسها إلى الهلاك!
بنظري ما سيقود الشعوب جمعاء إلى الهلاك هو الحروب، لكن لنتذكر أن الكاتب من القرن التاسع عشر، ولم يسمع حينها عن أسلحة الدمار الشامل، فلو أضفنا هذا العامل لتم تفسير تشوه "المورولوك" الذين لم يبنوا ما يحصنهم من الإشعاعات والتلوث، أما المرفهون الذين بنوا السراديب والأقبية بمجهود العمال والفقراء، وطبعا لم يسمحوا لهم بالاحتماء بها، نجوا من التشوّهات، ولكن بدون قدرات فكرية وجسدية أصبحوا تحت رحمة من استعبدوهم يوما، لا بل تحولوا إلى مصدر غذاء!
رؤية سوداء متشائمة ذهبت بالكاتب وبي إلى أقصى حد التشاؤم، ولكن أليس من حقنا أن نفكر بكل المخاطر التي تحيط بنا؟ أسلحة الدمار الشامل تتكاثر، ومن يضمن لنا أنها يوما ما لن تقع في يد معتوه كل ما عليه، ليرضي غروره ويشفي غليله، هو أن يضغط "زرّا" وينتهي كل شيء! والعالم من حولنا بدلا أن يبحث عن سبل السلام والتعايش، يتنافس في صناعة الأسلحة الفتاكة، بل توقد الحروب كي تكون مسرحا لعرضها، وعلى أرض من؟ على أرض الشعوب المقهورة حيث لا قيمة للإنسان بالنسبة إليهم! أناس يبحثون عن الحياة وأناس يبحثون عن الرفاهية، وأناس يبحثون عن القوة والنفوذ، جعلت من الأول مسرحا للتجارب ومن الثاني مستهلكا مدمنا، والنهاية إن استمر الوضع على ما هو عليه... دمار شامل لا سمح الله!
يا سادة، يصعب عليّ وأنا أتابع كل هذه الهمجية والدمار من حولنا، أن أشعر بالتفاؤل! ولكن حين أنظر في عيني طفل رضيع أشعر بالتفاؤل، حين أشهد مولد فجر جديد أشعر بالتفاؤل، حين أرى الناس يزدادون وحدة وترابطا بعد كل تفجير إرهابي أشعر بالتفاؤل، حين أجد أن هنالك أناسا في هذا العالم ما زالوا ينادون بالسلام والتعايش، أشعر بالتفاؤل، حين أرى الأمل في عيون طالبات يسعين إلى تنمية قدراتهن ومهاراتهن رغم الظروف الصعبة التي يمررن بها، أشعر بالتفاؤل، حين أرى متطوعين ومتطوعات ينزلون إلى الساحات ويقدمون كل ما بوسعهم للارتقاء بمجتمعاتهم، أشعر بالتفاؤل، حين أرى الساعد يساند الساعد، والفكر يرتقي بالفكر، والمشاعر تتحد والقلوب حية ما زالت تُصغي وتتعاطف، أشعر بالتفاؤل، حين أرى من يقابل الكراهية بالمحبة، والهدم بالبناء، والجفاء بالتواصل، أشعر بالتفاؤل، وحين أرى أن المجهود يدعم بالدعاء والسعي يدعم بالتوكل على الخالق، أشعر بالتفاؤل، ببساطة، وجدت أنني حين أُفعّل البصيرة أرى داخل ظلمات التشاؤم شموعا تسبح، إضاءات تنبض، وومضات أمل تدفعني لأزداد يقيناً بأن الله جعل الاختيار بيدنا، فإما أن نتوقف ونفقد الثقة بالإنسانية، وإما أن نستمر بالبناء وكلنا إيمان بأن الله سبحانه وتعالى لن يتخلى عنا وسيجد لنا برحمته مخرجا.