القصيدة الشعبية أو العامية أو النبطية أو الدارجة أو غيرها من المسميات، وبالذات التلقائية منها والمباشرة التي نسمعها في المناسبات والمهرجانات والمحاورة والرد، هي كتابة صوتية في خطابها الشعري من خلال رؤيتها وممارستها (الشفاهية)، ولكن الإنصات لها يثير التساؤل والذهول حول ذلك الحضور الارتجالي والبديهي في نسيج النص وكيمياء اللغة، واستثمار اللحظة واستلهام الفضاء الابتداعي، وما يستتبعه من قوانين وتشريعات ومقابسات صنعتها القصيدة الشعبية في تلك الحالة، وفق شرطها المعرفي وآليات اشتغالها النصي دون الوقوع في الاختلالات أو الارتباكات بفعل شفهيتها وما يعتمل داخلها من شعرية مباغتة ولهب فاتن، مثل القوافي المتعددة وغلبة الجناس والمقامات الصوتية أثناء الأداء، في ظل لغة متينة وريانة وإيقاع مندفع وتوهج بوحي مدهش، وغنائية جياشة وصافية وانتقالات لحنية بارعة، قد يختلف الكثير حولها (أي القصيدة الشعبية) بالرفض المطلق أو القبول على استحياء، أو الانتصار لها كتيار مهيمن يجب الاحتفاء به وتعميق مدياته وتدفقاته. السؤال النمطي الشائع، من أين جاء هؤلاء الشعراء الشعبيون بهذه القدرة على الصياغة المتقدة واللحظية والخروج عن سنن القول الرتيب، والإفصاح الشفيف بالمعاني الخفية والإيماءات المثقلة بالحيوية والاستجابة لاحتياجات المتلقي، واستدراج الجمهور لحالة استغراقية من النشوة والتطريب الحسي والوجداني؟ هل فعلا يوظف هؤلاء الشعراء هاجس (الجن) وتجلياتهم كما يشاع؟ بحكم الاستيطان والسكنى (بوادي عبقر) مجازا، والعلاقة المشتبكة مع عوالمهم وصراعهم الضاري داخل أحشاء القصيدة وطقوس التلبس ولا غرابة في ذلك، ألم يقل امرؤ القيس قبلهم: تخيرني الجن أشعارها فما شئت من شعرهن اصطفيت، ويقول أبو النجم: وإني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر، سألت الشاعر الشعبي الشهير (ابن عشقه) رحمه الله، اسمك (علي بن محمد بن شاهر عسيري) فمن أين أتيت بمسمى (ابن عشقه)؟ قال هي: (قرينتي جنيتي) ترى هل هو قناع يختفي وراءه الشعراء الشعبيون، وتداخل صاخب بين فيض الإلهام والمضمر من غوامض الإبداع وحواسه المستفزة المشبعة بالجماليات وجمر القصيدة اللاهب، مما أجج في الأذهان هذا الميراث في المخيلة العامة والفهم المراوغ وشراسة الخيال المستبد، الذي تزدهر به لغة وصور هؤلاء الشعراء، وبالذات مهارة (الجناس) وما يتفتق منه من ثراء أمسك بحواس المتلقي وزاده تلذذا مترعا ويقينا بأن تلك الشطحات الباهرة والأجواء الغرائبية الأخاذة التي تحفل بها تلك الروافد الشعرية هي مغذيات ذاتية من عوالم أخرى وموحيات مموهة يصعب تفسيرها، بعيدا عن (الميثولوجيا) والأساطير فقد ملك هؤلاء الشعراء ناصية القول وهيمنوا على الذائقة حين لامسوا عصب الحياة، واقتنصوا حميم المشاعر، ونثروا أقمارهم فوق سقوف الأرواح المشغوفة بغنائهم الطروب وهديلهم الصاعد.