بفوز جاستن ترودو بمنصب رئيس وزراء كندا، بعد نجاح حزبه الليبرالي بإنهاء تسع سنوات من حكم المحافظين، تكون مرحلة جديدة من السياسة العالمية قد بدأت.
مرحلة لا علاقة لها بالتحالفات العسكرية ولا التكتلات الاقتصادية، ولا باختراع سلاح جديد، أو نبوءات بانهيار إمبراطوريات ونهوض أخرى، فالجانب الأبرز من الخبر والذي تناقلته وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وحتى الناس في أحاديثهم اليومية في جميع أنحاء العالم، لم يكن سياسات حزبه، ولا برنامجه الانتخابي (رغم احتوائه على بعض النقاط الهامة والمثيرة للجدل) ولا التغير في السياسة الخارجية لكندا، ولا في تأثير هذا الفوز على الاقتصاد وحياة الناس، وفرص عملهم وضرائبهم.
كان الجانب الأبرز ويكاد يكون الوحيد الذي تم التركيز عليه عالمياً، هو العمر الصغير لرئيس الوزراء المنتخب، ووسامته وأناقته، والمهن المتعددة التي مارسها (مدرب تزلج على الماء، نادل في مطعم، ملاكم)، ومواصفاته الشخصية فهو رئيس وزراء وسيم وشاب يضج بالحيوية والنشاط، عصري يرتدي سراويل الجينز، ويلتقط صور (السيلفي) مع العابرين في الطريق.
وكندا هي البلد التي لا يهتم أحد في العالم بساستها وسياستها، فعلاقتها مع العالم الخارجي تكاد تنحصر في تلك المساهمة الشكلية البروتوكولية في حروب الولايات المتحدة الأميركية في العالم، حتى إن سكان الكيبك (المقاطعة الفرنسية وعاصمتها مونتريال) لا يعرف كثير منهم أسماء وزراء حكومة كندا، التي مقرها أوتاوا، فليس لذلك تأثير على حياتهم اليومية.
ولكن هذه المرة انشغل العالم برمته بشخص رئيس الوزراء، لأسباب جديدة تماماً تحمل الكثير من الدلالات والمعاني.
أصبح جاستن شهيرا بسبب جاذبيته، وهذا المعيار فرضه قرن من سطوة وسائل الإعلام الجماهيرية، من السينما والتلفزيون إلى الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فعلى ما يبدو أن طريقة صنع النجوم في السينما والموسيقى والرياضة، آن لها أن تنتقل إلى السياسة، والمواصفات التي تصنع الممثل المحبوب هي نفسها ما سيصنع السياسي المحبوب.
زمن الكاريزما انتهى، أو هذه مقدمات نهايته، فلم يعد البشر (أقصد البشر في العالم الأول) يريدون ذلك الزعيم الصلب المتجهم، الذي يخوض الحروب وينتصر على الأعداء، ويهدد الخصوم ويقيل مساعديه بطريقة حاسمة، ويتخذ القرارات التاريخية (أو القرارات العادية بطريقة توحي أنها تاريخية).
عرف العالم في فترة بين الحربين العالميتين، وبعد الثانية بقليل عدداً من الزعماء الكبار من أصحاب الكاريزما بصورتها التقليدية، مثل هتلر وموسوليني وستالين وديغول وروزفلت، ثم تساقطوا تباعاً بالموت (ستالين) أو الهزيمة العسكرية (هتلر وموسليني) أو بضجر الجماهير (ديغول)، وبقيت امتدادات لهذا النمط من الزعماء، ومحاولات تقليد لهم كانت تتصاغر يوماً بعد يوم، فحاول جاك شيراك وقبله فرانسوا ميتران في فرنسا أن يمارسوا دور الزعيم الكاريزمي، لكن الزمن كان قد مرّ على احتياج الجماهير لهذا النوع من الزعماء.
في منطقتنا العربية كان جمال عبدالناصر المثال الأبرز للزعيم الكاريزمي الذي يلهب الجماهير بخطاباته الحماسية ويتخذ القرارات الثورية المفاجئة، ثم حاول عدد من زعماء المنطقة تقليده، والحلول مكانه، بل تنافسوا فيما بينهم على هذا الدور، فقدّم كل من حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي نفسه كزعيم للأمة العربية، واستخدم الأول والثاني الشعارات ذاتها وأدبيات حزب البعث نفسها، واستخدم الثالث أموال النفط الليبي لصنع زعامة فارغة، انتقل بها إلى محاولة تزعم أفريقيا بعد يأسه من تزعم الأمة العربية.
كل ذلك قد انتهى الآن، وهذا زمن لا مكان فيه لتلك الألاعيب الصبيانية، فالسياسي اليوم هو مجرد رجل من العالم، يرى الناس صفحته على فيسبوك ويرون صوره على إنستجرام، ويقرؤون تغريداته على تويتر، هو مجرد رجل يشبههم، ليس قادماً من السماء، ليس "ملهماً"، وليس "ربّان السفينة"، ليس بيده مفاتيح الحياة، ولا يملك زمام المستقبل، إنه مجرد رجل يؤدي وظيفة عامة، وظيفة مدير لمؤسسات الدولة، وبالتالي لا بأس أن يكون باهتاً وعاديا كفرانسوا هولاند، أو مجهولاً كرؤساء حكومات معظم الدول الأوروبية، ولكن من المثير أكثر أن يكون وسيماً ومبتسماً ونشيطاً وحيوياً وشاباً، ولذلك سيفتتح انتخاب جاستن ترودو في كندا الباب لنوع جديد من الكاريزما.