لم أتمالك نفسي وأنا أتابع ظهور رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير على قناة CNN واعتذاره عن أخطاء قد يكون ارتكبها خلال اجتياح العراق عام 2003 وأدت بالضرورة إلى ظهور تنظيم داعش.

شعور الصدمة امتزج بابتسامة تقطر ألما على الحال الذي وصلت إليه بلاد الرافدين، وعلامات استفهام جمة بدأت تدور في رأسي، وكنت أتمنى في تلك اللحظة أن أكون المذيعة التي تستضيفه لأوجه له سؤالا واحدا: عن ماذا تعتذر يا "مستر بلير"؟!

هل تعتذر عن حصيلة قتلى وجرحى تجاوزت الملايين منذ اجتياحكم -أنتم وأميركا- بغداد، وتقسيم قائم مقامكم "بريمر" لكعكة المحاصصة المعجونة بسموم الطائفية وما جرته من وبال على العراقيين حتى يومنا هذا؟

أم هل تعتذر عن دخولك مزادا علنيا بيعت فيه أرض العراق أمام عينيك لإيران، وخرجت منه صفر اليدين، فلا أنت ومن معك نلتم بلح الشام ولا عنب اليمن، لكنكم حكمتم على تمر العراق ونخيله الباسق بالانسلاخ عن هويته العربية والارتماء في أحضان الفرس؟

أم تراك تعتذر للأرامل واليتامى ممن عاشوا بؤس الحياة بعد أن خرجوا لاستقبالكم كالفاتحين في شوارع بغداد ونثروا الورود على دباباتكم، فاستحالت تلك الورود إلى رصاص ينهال على رؤوسهم وعبوات ناسفة تتربص بهم على قارعة كل طريق؟

أم ربما تعتذر عمن حملتهم دباباتكم إلى كرسي الحكم في العراق، فنهبوا وسلبوا ما عجز حتى التتار عن سرقته من خزائن بغداد يوما ما، ليتحول من بلد يعوم على بحيرة من الثروات في يوم وليلة إلى إحدى أكثر الدول بؤسا وفسادا حول العالم؟

ولَك أن تعتذر أيضا عن جواز السفر العراقي الذي أصبح ضمن قـائمة الأسوأ دوليا، لكنه بـات سلعة رائجـة في سوق اللجوء السوداء لكل من يرغب في ولوج البحر وصولا إلى أوروبا لاستجداء الأمن والعيش الكريم!

وماذا عن اعتذارك لعراق الثقافة والأدب والعلم؟ ماذا عن أحفاد الجواهري والسياب ومظفر النواب؟ فهم اليوم على قائمة الأكثر أمية وجهلا، بعد أن حالت ظروف الحرب دون السماح للمئات منهم بدخول المدارس التي دمرتها آلة القتل اليومي، أو تلك التي فضل غيرهم تركها إلى الشارع لتعلم حرفة يعولون بها أمهاتهم الثكلى وأشقاءهم الأيتام.

ولا تنسى أن تعتذر لعراق الفسيفساء الذي جمع يوما ما كل الأطياف والمذاهب تحت سماء واحدة، بل تحت سقف واحد، لنراه اليوم ساحة للاقتتال تراق في أنحائها دماء تفوق بأضعاف تلك التي أراقها هولاكو في نهر دجلة قبل قرون.

وعلى ذكر الموت الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من حياة العراقيين، لا تنسى الاعتذار لمئات الأطفال ممن يموتون يوميا بعد انتشار الكوليرا وغيره من الأمراض كالنار في الهشيم، حاصدة أرواحهم الطاهرة، في بلد أنجب أعظم أطباء العالم عبر التاريخ، وكان قبل سنوات ضمن الأكثر تقدما في هذا المجال.

لا تعتذر عن داعش، فـ"داعش" ليس سوى جزء بسيط من جملة أخطاء اقترفتموها بحق شعب كامل طيلة تلك السنوات، وبعد كل ذلك لن ننتظر منك الاعتذارات، بل ربما التعازي على عراق أضعناه بأيدينا بعد أن صدقنا وعود ديموقراطيتكم الزائفة، ولا يسعنا إلا أن نقول لك في النهاية: شكر الله سعيكم يا "مستر بلير"!