الجزيرة العربية أنتجت ما يسمى بـ(جينالوجيا الشعر) في العالم كله! والشعر وكل الصنوف الأخرى هي منصة التتويج على هامات الرجال، لما أنبتته تربتها من خصوبة ذهنية وفكرية دافقة. ولعلنا نتساءل: أين ذهبت هذه الغزوات الفكرية والإبداعية المتدفقة على شطآن الدنيا؟ وهل لا يزال بيننا من ينثر قلمه ذهبا على الورق ويحيا بيننا؟ وهل لا تزال هناك رؤوس تدور على أكتافنا؟ وإن كان ذلك كذلك فأين بريقها، ومن المسؤول عن نثر التراب على الذهب؟!

إن ما أطفأ شمعة الإبداع -بجميع صنوفه- بإصبع خنصره هو إهمال شأن المبدعين وفرز الغث من الثمين، وعليه، لم تعد هناك شعبية للنابغة، لأن الجيل لم يعد يرى القيمة المحتذاة المبهرة الساطعة اللامعة والتي توضع موضع القادة، (قادة الفكر واعتلاء صهوة الكلم)، فالبريق يخفت والمبدع في يومنا هذا يعامل مع الأسف الشديد معاملة المتسول والمتطفل على موائد الثقافة والفكر والأدب!

دعونا نذهب في نزهة إلى الماضي القريب، إلى شاعر القبيلة وما كان يحظى به من اهتمام، وما نتاج ذلك التبجيل والاهتمام؟ القبيلة كلها كانت تحتفل بالشاعر إذا ما نبغ وتضرب له الدفوف، ويتوج إلى حد أنه يكون أكثر شأنا من شيخ القبيلة، فهو من يدون التاريخ وليس المؤرخون، فالتاريخ لا ينبض إلا من بين أصابع المبدعين، فكم هلكت قبائل وشبت قبائل بفعل الشعراء والمبدعين كما قال الجاحظ، فأصبح المبدع رمزا وقيمة ومنزلة يطمح إليها الرجال؛ ولذا كان الرجال يعلمون أبناءهم الشعر والخطابة وفنون الكلم، فأصبح الشعر العربي علامة مسجلة تطوف أرض الله.

وإذا ما ولجنا إلى عالم المسرح لوجدنا أن اليونان -في أوج ازدهار المسرح- تقيم المسابقات المسرحية -حوالي عام 400 قبل الميلاد- فتقف القبيلة كلها خلف عرضها المسرحي، فإذا ما فاز بالجائزة زف النصر للقبيلة وحازت كلها على غصن الغار؛ فتقف القبيلة كلها خلف مبدعيها بكل دعم مالي ومعنوي للفوز بأغصان الشرف والمكانة الرفيعة، ولذا خرج لنا سوفوكل ويوربيدس وميناندرز وغيرهم ممن خلدوا حضارتهم الفكرية ونتدارس إنتاجهم اليوم في جامعاتنا!

أما في يومنا هذا فنشتكي ندرة الإبداع في الشعر والمسرح والرواية وكل صنوف الفنون، كما نشتكي من طفرة الأوراق على أرفف المكتبات بلا معنى ولا طعم ولا لون ولا رائحة! ولم يعد القارئ يشغل نفسه بورقة صفراء أو بيضاء ومعه كل الحق، لأنه فقد الثقة بينه وبين مبدعيه، وربما يكون من بينهم من هو جدير بالاهتمام والتتويج، إلا أنه لا يرى بالعين المجردة بين ركام الورق غثها وثمينها! من المسؤول عن نثر الإبداع بين أوراق الفلافل وتحت أقدام ناقشات الحناء، من المسؤول عن فرز الغث وتتويج من يستحق التتويج لعل الجيل القادم يجد قيمة يتطلع إليها؟ أي ثقافة ننشد ونحن نهمل نوابغ القلم ونتركهم يتطفلون على مكاتب المتنفذين، وإن كتب الله لهم الفلاح نجدهم يهدون إبداعاتهم هدايا في تسول محموم للقراءة!

الأعمال النابغة لا تهدى ولا يتسول أصحابها ولا تستغل من دور النشر الخادعة والمزيفة للإبداع. لقد أضعنا الإبداع عندما ضيعنا شعبية المبدعين.