سأكتب هذا الصباح "متلازمة النقيضين" وعن وحول التغذية الفكرية والثقافية التي يراد بها قولبة هذا المجتمع في استغفال وتسطيح لبنائه العقلي الجمعي. في المثال الأول: هاتفت مساء ما قبل البارحة صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور، وأستاذ الجامعة الذي يطلب حتى عدم كتابة اسمه بعد سنوات من آخر لقاء. فوجئت به وهو يخبرني إحالته للتقاعد النظامي، فأجبته من باب جبر الخواطر: لعلها فرصة سانحة أن يمنحك الوقت في القادم من الزمن مساحة للوعظ وللدعوة والمحاضرات العامة. لكنني حزنت جداً وهو يجيب بألم: لم أدع في شبابي ولا في اكتمال قوتي لندوة أو لقاء أو معرض أومخيم أو حتى لمحاضرة، فلن أنتظر أن تنهال هذه الدعوات في زمن النسيان ورحيل زهرة العمر. عرفت صاحب الفضيلة، أستاذا جامعيا، زاهدا ورعا، بل عرفته أكثر من هذا كآلة تسبيح وحمد. عرفته موسوعيا تستطيع أن تقول بثقة إنه المسطرة الأخلاقية لقياس الاعتدال والوسطية، ورغم اسمه الأكاديمي الضخم لم تدعه جامعته أو كليته أو حتى قسمه الأكاديمي حتى ولو إلى شراكة محاضرة. كان هذا العالم الرباني الموسوعي ضحية الزمن الذي يعشق الإثارة، ويؤسفني أن أقول إن هذا العالم الاستثنائي أنهى مشواره الأكاديمي والوظيفي فقيرا مدقعا يعيش مع عائلته المتوسطة الحجم في شقة إمام المسجد.
في المثال الثاني، وأرجو أن يمتنع الوسطاء عن قراءة النوايا: سهر البلد بأكمله ليلة البارحة على الهاشتاق الأكثر تداولاً.. "جامعة تستضيف سلطان الدغيلبي، أبوزقم" لإقامة دورة مدفوعة الثمن لكل حاضر مشترك عن "فن التعامل مع الآخرين". وكلنا يعرف من هو "أبوزقم" وهو أيضا شجاع صريح لم يخف على أحد من بيننا تاريخه ولم يزور شهاداته ولم يضحك أبداً على ذقون هذا المجتمع كي يظهر أمامه بسيرة ذاتية مزيفة، وأنا هنا أشكره من الأعماق على هذا الوضوح والصراحة. وليمتنع مرة أخرى هواة قراءة النوايا: أنا واثق أن "أبوزقم" بعقله الراجح وتجربته المثيرة سيستوعب السؤال: أي عقل جمعي وأي تغذية فكرية هي تلك التي سمحت لحامل شهادة المتوسطة أن يكون ضيف كل أنشطة الجامعات؟.. وأين؟.. في جامعات عمل بها مئات العلماء الذين قضوا كل حياتهم ما بين آلاف الأوراق والأبحاث وبطون كتب التراث ثم غادروها دون دعوة شاردة لندوة أو شراكة ربع محاضرة. أي عقل جمعي هو هذا الذي أوصلنا إلى الغياب الجمعي لطلاب جامعة في مادة شيخ موسوعي استثنائي بكل المقاييس، وفي المقابل يتكدسون في السباق إلى ربع فرصة حضور عند "أبوزقم" الذي يصف نفسه: مجرد مفحط تائب؟ سأختم: أرجو أن لا يقول أحدكم: هذه طبيعة العصر. إنها طبيعة إملاءاتنا عليه وأبوزقم ليس إلا المسطرة في قياس بناء العقل الجبري. انتهت المساحة وسأواصل غداً في قصة مثيرة.