فيما اضطر المرجع الشيعي أبوالقاسم الخوئي، تحت ضغوط الرئيس العراقي السابق صدام حسين، إلى وصف انتفاضة مارس 1991 بأنها "فتنة"، كشف شهود عيان أن غالبية علماء المذهب أدلوا بتصريحات مشابهة، عقب اعتقالهم بواسطة النظام، كشرط لإطلاق سراحهم، إلا أن التركيز كان على الخوئي كونه الأكثر شهرة.




بعد وفاة محسن الحكيم لم تنتقل المرجعية إلى نجله الأكبر يوسف الحكيم، مثلما أُشيع أن جماعة أرادوها له، ذلك لزهده وتركه الدنيا، أولاً، وثانياً لوجود الأعلم والأقدم، وهو أبوالقاسم الخوئي.




مرجعية الخوئي

كان الظرف دقيقاً، وأحداث جسام مرت على العراق، ولعلَّه لم تواجه مرجعية دينية ظرفاً حرجاً مثل مرجعية الخوئي وتلميذه السيستاني. فللمرة الأولى في تاريخ النجف، مقر المرجعية، يُختطف مرجع ديني لمقابلة رئيس الدولة، مثلما حدث مع أبي القاسم الخوئي، مع تعالي الأخير على السياسة وتضييقه على كل عمل معارض أو حزبي، ولم يهتم سوى بالحفاظ على الحوزة الدينية وبقاء النجف مركزاً لها. وفي تلك اللحظات اعتُقل مجموعة من علماء الدين، ومن بينهم المرجع الحالي السيستاني، وذلك إثر انتفاضة مارس 1991، ثم قمعها من القوات الحكومية.

حينها صرح الخوئي، مضطراً عبر الإعلام، وهو في مواجهة صدام حسين، بما معناه كانت الانتفاضة فتنة، وما زال هناك من يؤاخذ الخوئي على كلماته تلك، وأنه أحجم عن إصدار فتوى جهاد، وغيره من الكلام السائر هنا وهناك. إلا أن شهود عيان أكدوا أن المعتقلين، من علماء الدين كافة، أدلوا بمثل ذلك التصريح، وبُث من على شاشة التلفزيون نفسها، كشرط لإطلاق سراحهم، إلا أن التركيز كان على الخوئي كونه المرجع الأعلى، بينما لم تحتفظ ذاكرة الناس ببقية الوجوه، كونها كانت ثانوية، وغير معروفة مثل الخوئي، ولم تذكرها روايات من كتبوا عنها، ربما أغفل تسجيل ذلك للفوضى وزحمة الحوادث في ربيع 1991، أو لعدم أهمية شخصوها آنذاك.

خلال الانتفاضة، عقب تحرير الكويت، أَمر الخوئي حينها بتشكيل مجلس أو لجنة لإدارة مدينة النجف، بعد خلوها من السلطات، إثر انتفاضة ربيع 1991 ومواجهة الفوضى وحماية الناس، حيث وفدت إليه وفود المدينة تطلب منه التدخل لبسط الأمن بالمدينة. ففي تلك الحوادث قُتل كثير من المحسوبين على أجهزة النظام الذي كان لا يزال قوياً ببغداد.

وما يخص خلافة أبي القاسم الخوئي، قبل تسلم مقاليد المرجعية من قبل السيستاني، فإن هناك من أشار من المطلعين على أوضاع المرجعية الدينية بالنجف، إلى نصر الله المستنبط، فهو من العلماء الكبار، ومن أساتذة الحوزة في العقائد، ومن الذين درسوا على يد الشيخ محمد حسين النائيني، أستاذ الخوئي والحكيم معاً، إلا أنه توفي في حياة الخوئي. كذلك كان بين الخوئي والسيستاني مجتهد آخر كبير، هو أبو الأعلى السبزواري، ولم تدم مرجعيته سوى شهور، درس على يد محمد حسين النائيني أيضاً، بمعنى أنه كان زميلاً للمرجعين: الخوئي ومحسن الحكيم.





 


مرجعية السيستاني

كان الحدث الأهم، الذي واجهته مرجعية تلميذ الخوئي هو سقوط النظام، لكن من دون رجعة، وفراغ البلاد بكاملها، لا النجف وحدها، من السلطة "أبريل 2003"، وكيف تتعامل المرجعية وهي ترى جيوشاً غازية تنقض على البلاد والسلطة، وهي الراغبة بسقوطها، لكن بما لا يعرضها إلى مثل هذا الحرج. بعد وفاة الخوئي "1992"، أخد اسم السيستاني يَهل على الأتباع عبر الوكلاء المعنيين بالشؤون الدينية حسب، وكانت السُّلطة تجري مناوراتها من أجل إحلال المرجعية التي تراها، وأن تكون من خارج العلماء المنحدرين من أصول إيرانية. وكم كان ظرف المرجعية في عهد الخوئي دقيقاً والدولة العراقية تخوض حرباً مع إيران، ويُضغط عليها لإصدار فتاوى تأييد، أو تواجه إجراءات التسفير ضد المقربين منها، وضد أساتذة وطلاب حوزتها العلمية.

في تلك الفترة عاش السيستاني العزلة واقتصر دوره على إصدار الأحكام الفقيه ليس إلا. فما ذكر عن المرجع الأعلى بأنه يميل إلى الحياة العلمية والفقهية، ويبتعد قدر الإمكان عن الحياة الاجتماعية، وما تتطلبه من مجاملات. هذا ما شهد به شخص قريب من السيستاني وعمل معه، وهو الأكاديمي والشاعر محمد حسين الصغير. قال "عاش منعزلاً حتى لا يعرفه أكثر طلابه وعلية القوم، وهو معهم وخارج عنهم، لا يتصل إلا لماماً، ولا يتعايش مع الآخرين إلا لواذاً، فالعلم فوق كل شيء، وهو أكبر من كل شيء، ويضحي من أجله بكل شيء".

إلا أن الظرف تبدل، والموقف، بطبيعة الحال، يتبدل، وجاء زلزال أبريل 2003، وسقط الحاجز ما بين المرجعية والأتباع، فنودي به زعيماً، وهتف له كقائد.




نفي التواصل مع الأميركان

عندما تحدث بريمر عن رسائل متبادلة بينه وبين مكتب السيساني جاء تكذيب الرسائل، مع الاعتراف بصحة استقبال أعضاء في مجلس الحكم، وعراقيين آخرين، وهم بدورهم ينقلون الآراء بين سلطة الائتلاف والمرجعية. فلا بد من قناة بين حكومة الائتلاف الدولي والمرجعية. فالأخيرة تعلم أنه لا شيء يتحقق بدون موافقة الأميركان، والأميركان يعلمون مدى صعوبة العمل في حالة معارضتها.

إن تكذيب الاتصال مع الأميركان يعني أن المرجعية خارج الحدث، وخارج الزمن العراقي برمته، بينما هي تعيش يومياته. ولعل بريمر عندما تحدث أو كشف عن وجود مراسلات مع السيستاني، لا يعني بالضرورة أنها رسائل خطية، حتى يُطالب بنشرها، بل رسائل شفاهية عبر الوسطاء، الذي يترددون، حتى أمام الإعلام، على مكتب المرجعية.

بغض النظر عما لحق بالمرجعية من تبعات إدارة الدولة، والتعدي على المال العام، وتأخير الإعمار، وممارسة العنف.. إلخ، يبقى لها دورها الواضح في قمع الحرب الطائفية، أو الأهلية، وحثها على عدم التجاوز في عمليات الانتقام من البعثيين، إلا ما حدث بحدود من اغتيالات، أصبحت متبادلة. كذلك كان ردها على تصريحات وممارسات قوى الإرهاب، مثل جماعة الزرقاوي، موقفاً دفاعياً عقلانياً إلى أبعد حدود المسؤولية، فلو تبنت موقف الهجوم باسمها لحصلت الكارثة الشاملة. مثلاً، كان رد السيستاني على استفتائه من قِبل التيار الصدري حول تصريحات الزرقاوي ضد الشيعة "أن تأخذ الحكومة دورها في حماية المواطنين، وأن يتفعل دور القضاء العراقي، والتحذير من الانتماء إلى تلك الجماعة، والحث على مراقبتها منعاً للتسلل"، ولم يفتِ بتشكيل ميليشيا أو تسليح لجماعة خارج إطار السلطة.

هناك عدِّة بيانات أصدرتها مرجعية السسيتاني استهجنت فيها العنف، وأشارت إلى عدم جواز التعدي على مساجد أهل السنة، واعتبرت أن هذا العمل "مرفوض تماماً، ولا بد من رفع التجاوز، وتوفير الحماية لإمام الجماعة، وإعادته إلى جامعه معززاً مكرماً".




تكوين الائتلاف الشيعي

بدأ تدخل مرجعية السيستاني بعد سقوط النظام السابق مباشرة، وما نلاحظه، وفي فتاوى وبيانات أغلب المراجع، أنها تصدر كأجوبة على أسئلة يتقدم بها المُقلدون. ونقرأ من اللقاءات الصحفية مع مكتب المرجعية، ومن الرسالة عنها، التي هي بمثابة فتوى، أن السيستاني ينأى بنفسه أن يكون طرفاً. لكن المفاجأة كانت في دعم قائمة الائتلاف الشيعي، وغض الطرف عن رفع صوره واسمه في الدعاية الانتخابية "انتخابات 2005"، وكذلك ما بثه الوكلاء بمناطق الجنوب عن الرأي بتأييد تلك القائمة، وذلك لتثبيت حقوق الشيعة على ما ورد في حينها.

أعطت مسألة تشكيل الائتلاف الشيعي مبرراً لتشكيل التوافق السني، ودخول الكُرد، من قبل الائتلاف، بالتحالف الكردستاني، وبذلك شيدت الدولة على أساس المحاصصة الطائفية، التي أعاقت تنفيذ القوانين وتحقيق العدالة، وإعادة الإعمار، وأصبحت حجر عثرة أمام تنفيذ القانون بحق المسيئين والمفسدين، بسبب الحماية الطائفية. ونفهم مما سيأتي أن المرجعية أرادت أن يحكم العراق بالمحاصصة الطَّائفية، فائتلاف شيعي لا بد أن يقابله ائتلاف سُني، ويدعم الائتلاف الكردي.

فحسب ما نُقل عن نجل السيستاني، محمد رضا، أن فكرة الائتلاف الشيعي "نشأت في ذهن المرجعية منذ أشهر، وقد تبين السيستاني المبدأ القائل بأن الائتلاف العراقي الموحد ينبغي أن يكون هو الأداة الانتخابية للشيعة، وأن يستمر كذلك في أية حكومة تؤلف بعد الانتخابات باعتباره تجمعاً متحداً سيحكم البلاد".

وصف الحاكم الأميركي للعراق، بول بريمر، موقف مرجعية السيستاني بالغامض "الذي يتقلب بين العزلة الروحية والمشاركة المباشرة في العملية السياسية، فقد كان بعمامته السوداء، وعباءته الدينية الداكنة، وvلحيته البيضاء، صاحب النفوذ العظيم في مدينة النجف". وفي غير مكان من كتابه "عام قضيته في العراق"، أشار بريمر إلى مراسلات مباشرة بالمرجعية، مع تكذيب مكتب المرجعية، أو المقربين منها، لأي اتصال لها بالأميركان.