يعتبر قرار مجلس الوزراء القاضي بإنشاء مركز وطني لقياس أداء الأجهزة العامة تحت مسمى "المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة" بشخصية اعتبارية مستقلة ماليا وإداريا، نقلة نوعية في الإدارة الحكومية وبمثابة عصر جديد لها تتجه فيه نحو رفع مستوى كفاءة الجهات الحكومية وتحسين خدماتها المقدمة للمواطنين، وذلك من خلال تطبيق مفاهيم ومبادئ ونظريات الإدارة الحديثة الموجودة في الشركات والمؤسسات التجارية على العمل الحكومي.

وبالرغم من أهمية المركز الوطني لقياس الأداء وأثره على تطوير الإدارة الحكومية، إلا أن مفهوم الأداء الحكومي لا يزال غامضا وغير واضح، ومن الطبيعي أن يختلف الناس في فهمه وتحليل أبعاده، خصوصاً أن الأداء الحكومي متعدد الجوانب ومعقد التركيب، وبالتالي انعكس هذا الغموض وهذا الاختلاف في تحديد المفهوم على طبيعة دور المركز الوطني للقياس.. فهل دور المركز يتعلق بالرقابة على أداء الجهات الحكومية أم أن هذا القياس يتعلق بتحديد جودة الخدمات الحكومية؟ ولماذا تحتاج الجهات الحكومية إلى وجود مؤشرات للقياس؟ وأخيراً كيفية هذا القياس؟

لن أتطرق إلى المفاهيم والنظريات الأكاديمية حول هذا الموضوع بسبب طبيعتها الفنية المتخصصة، ولكن سوف أتطرق إلى واقع الجهات الحكومية في مجال قياس الأداء، ومن ثم توضيح طبيعة دور المركز الوطني لقياس الأداء، وقبل الخوض في نقاش هذا الموضوع، أرى من الضروري التطرق أولاً إلى طبيعة الجهات الحكومية وبيئتها الإدارية.

فكما هو معلوم أن الجهات الحكومية لا تهدف إلى تحقيق الأرباح كما في الشركات والمؤسسات التجارية، بالإضافة إلى أنها لا تبيع سلعا أو منتجات وإنما تقدم خدمات مختلفة للمواطنين يصعب قياسها كميا، وهذا الأمر انعكس على أهداف الجهات الحكومية في تحديد أهدافها في الخطط الاستراتيجية لها والموجودة في خطط التنمية، فأصبحت تلك الخطط تتضمن أهدافا عامة غير واضحة، ولا توجد معايير لقياسها.

فعلى سبيل المثال، نجد في الشركات والمؤسسات التجارية أن ضمن أهدافها زيادة الأرباح وتخفيض المصروفات وزيادة عدد العملاء، وبالتالي توجد مؤشرات أداء كمية تستطيع هذه الشركات معرفة نتيجة تحقيق تلك الأهداف من خلال معدلات الربحية والعائد على الاستثمار والحصة السوقية ورضا العملاء وزيادة الإنتاجية، ومثل هذه المؤشرات لا توجد في الجهات الحكومية، فمثلاً إذا كان من ضمن أهداف وزارة الصحة في خطة التنمية تقديم خدمات طبية ذات جودة عالية، ومن ضمن أهداف وزارة التعليم الارتقاء بمستوى جودة التعليم، فكيف يمكن قياس تحقيق هذه الأهداف التي تمت صياغتها بشكل إنشائي فضفاض؟

وعلى هذا الأساس، فإن السائد في بعض الجهات الحكومية هو عدم وضوح الأهداف والرؤية الاستراتيجية لدى مديري الإدارات والقائمين عليها، وبالتالي العجز في إقحام أهداف خطط التنمية وسياساتها في أعمالهم الإدارية، بالإضافة إلى أن متخذي القرارات في تلك الجهات يقاومون الخطط أشد المقاومة بما يجعلهم في منأى عن المساءلة والمحاسبة، كما يسهل لهم في الوقت نفسه طرح خططهم وأولوياتهم التي قد تخدم مصالح الأجهزة التي يعملون بها فقط، أو مصالح أشخاص محددين، أو ربما مصالحهم الشخصية!، ولهذا لا نتعجب عندما نرى أن الخطط والاستراتيجيات تتغير بتغير المسؤولين.

قد يقول قائل "هناك أرقام إحصائية في بعض خطط الجهات الحكومية يمكن استخدامها كمؤشرات أداء وتحديد مدى تحقيق الأهداف من خلالها"، وأقول: نظرا لغياب المساءلة فلا توجد مراجعة مستقلة لتلك الإحصائيات، ولو قمنا بمراجعة بسيطة لوجدنا أن نسبة تحقيقها لا تتعدى (2%) ناهيك عن أن هذه الإحصائيات في الغالب يتم تحديدها بشكل جزافي وليس على أسس علمية، وبالتالي لا يمكن استخدامها كمؤشرات لقياس الأداء الحكومي لغياب مؤشرات أخرى ترتبط بالعمليات التشغيلية والموظفين.

فعلى سبيل المثال، توجد نسب ومؤشرات على الإنفاق المالي الحكومي على التعليم، والمملكة تحتل المرتبة السابعة عالمياً في هذا المجال، إلا أن ترتيبها في مؤشرات نوعية التعليم الدولية متدنية، وبالتالي لا توجد في الخطة مؤشرات تتعلق بكفاءة إدارة المدارس ولا توجد مؤشرات لنوعية التعليم الأساسي، ولا مؤشرات الكفاءة الداخلية للتعليم وبالتالي تحتاج الوزارة إلى إعادة هيكلة موازنة التعليم بحيث تركز على الإنفاق الرأسمالي الذي يوفر البنية التحتية والفكرية والبشرية للنهوض بقطاع التعليم.

ومما سبق، يتضح أهمية دور المركز الوطني لقياس الأداء الحكومي في وضع مؤشرات في الخطط الاستراتيجية للجهات الحكومية، وكذلك الخطط التشغيلية السنوية لها، ومتابعة وضع تلك المؤشرات في السياسات الداخلية بحيث يكون هناك مؤشرات تفصيلية، فعلى سبيل المثال يكون المؤشر الوطني للأداء هو معدل البطالة، فيكون الهدف تخفيض هذا المعدل، وتكون من ضمن السياسات مثلاً: توظيف أعداد المواطنين الراغبين في العمل تساوي أعداد الداخلين لسوق العمل، فتكون الغاية بالنسبة للإدارات المختصة بالسعودة والتوظيف عرض الوظائف الشاغرة على المواطنين أولاً، وتكون مؤشرات الأداء: عدد الداخلين لسوق العمل، معدل نمو قوة العمل ربع سنوي، معدل المشتغلون شهرياً، معدل البطالة ربع سنوي، وعليه يصبح لكل إدارة أيضا مؤشرات وأهداف أخرى، وجميعها تنصب في المؤشر الرئيس للوزارة، كما أن هذا المؤشر يعطي لكل موظف صورة واضحة عن الأنشطة الهامة وعما هو مطلوب تحقيقه، وهذا ما يساعد على التحكم في أداء العمل، فبه تتأكد الإدارة العليا أن جميع الموظفين يركزون على تحقيق أو تجاوز تلك المؤشرات.

لا شك أن هناك تحديات صعبة سوف تواجه المركز الوطني لقياس الأداء، ولكن ارتباطها برئيس مجلس الوزراء، وتحت رئاسة ولي ولي العهد سوف يعطيها القوة والصلاحية في تجاوز هذه العقبات نحو تحقيق إدارة حكومية حديثة تعتمد على المساءلة والشفافية، والعمل على إيجاد مؤشرات وطنية كمنظومة متكاملة للعمل الحكومي تلتزم بتحقيقها الجهات الحكومية المعنية، وخاصة في القضايا الاستراتيجية مثل البطالة والإسكان والتعليم والصحة والبيئة والبنية التحتية ومشاركة المرأة وغيرها.