أسباب ارتفاع وانخفاض أسعار الغذاء، لا تتأثر فقط بمستويات العرض والطلب وقدرة المخزون العالمي الزراعي على تلبية النقص في المعروض، وإنما تتأثر بالتغير المناخي وعوارضه المفاجئة التي يواجهها العالم أجمع، وتتأثر بالدرجة الثانية جراء ارتفاع أسعار الطاقة والشحن والتأمين وأسعار شراء واستئجار الأراضي الزراعية وزيادة وتيرة الآفات الزراعية والحيوانية، وأهم من هذا وذاك، فإنها تتأثر بالدرجة الأولى من انتشار تقنيات إنتاج الذهب الأخضر.
الذهب الأخضر هو الوقود الحيوي المستخرج من المحاصيل الزراعية، مثل "الإيثانول" المستخرج من المزروعات السكّرية، أو "الديزل" المستخرج من الحبوب النشوية.
في أواخر العام الماضي أعلن الرئيس الأمريكي عن خطته لتخفيف الاعتماد على النفط من خلال استغلال محاصيل الذرة وفول الصويا وقصب السكر لإنتاج 25 مليار جالون من الوقود الحيوي سنوياً خلال العقد القادم. وبالفعل بادرت أمريكا بإنشاء 33 مصنعاً لتكرير "الإيثانول"، واستهلاك 20% من المحاصيل الزراعية الأمريكية سنوياً، مما أدى لتراجع كمياتها المعروضة في الأسواق العالمية وزيادة أسعار الحبوب والأعلاف واللحوم والدواجن والخضراوات والألبان ومشتقاتها.
الدول المستهلكة للطاقة استغلت الخطوة الأمريكية، وهرعت لتسخير مواردها المالية وعقولها البشرية وتقنياتها المتقدمة لإنتاج الذهب الأخضر. لجأت دول الاتحاد الأوروبي إلى منح حوافز ضريبية لتشجيع استخدام الوقود الحيوي، فارتفع إجمالي إنتاج مصانعها من هذا الوقود في العام الحالي إلى 3.2 ملايين طن بزيادة قدرها 65% عن العام الماضي، مما جعل أوروبا أكبر منتج للديزل الحيوي في العالم.
ولجأت البرازيل إلى استغلال مزارع قصب السكر الهائلة لديها، فقامت ببناء أربعة مصانع سنوياً لإنتاج الوقود الحيوي، لتصبح البرازيل المنتج الأكبر لمادة "الإيثانول" في العالم بحدود 16 مليار جالون سنوياً، يذهب 13 ملياراً منها للاستهلاك المحلي ويتم تصدير الباقي للخارج. وتتوقع وزارة الزراعة البرازيلية أن يفوق محصول قصب السكر في هذا الموسم 423 مليون طن، ليتم تخصيص نصف هذا المحصول لإنتاج السكر والباقي لاستخراج "الإيثانول"، مما قد يؤهل البرازيل مستقبلاً لكي تتبوأ في هذا المجال مركزاً مرموقاً يماثل المركز الذي تشغله السعودية حالياً في سوق النفط.
وفي الوقت الذي تسعى تايلند لبناء 13 مصنعاً لإنتاج الوقود الحيوي بنهاية عام 2010، أقرت وزارة الصناعة الأسترالية أن إنتاج "الإيثانول" من القمح ينمو لديها بسرعة كبيرة مما سيقلل من كميات الحبوب الأسترالية المتاحة للتصدير. ويقدر مجلس الحبوب الاسترالي أن صناعة "الإيثانول" تستهلك نحو مليون طن من القمح سنويا كمادة خام.
أما إسرائيل فاستغلت هذه الخطوات لتبرم في العام الماضي أحدث اتفاقية دولية لإقامة منطقة تجارة حرة مع مجموعة الميركوسور اللاتينية المكونة من أربع دول، وهي الأرجنتين، البرازيل، باراغواي، أوروغواي. تهدف هذه الاتفاقية في المقام الأول إلى الحصول على بدائل الطاقة من الوقود الحيوي الناتج من مزارع قصب السكر المنتشرة في أمريكا اللاتينية. وفي المقام الثاني تسعى إسرائيل إلى فتح الأسواق الاستهلاكية العالمية على مصراعيها لصالح صادراتها والاستئثار دون غيرها بمكاسب هذه الأسواق عن طريق استثناء هذه الاتفاقات من تطبيق مبدأ حق الدولة الأولى بالرعاية.
مع فارق التشبيه، يتساوى عدد سكان مجموعة الميركوسور بسكان العالم العربي البالغ عددهم حوالي 250 مليون نسمة. وبينما تتراجع منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى إلى المرتبة السابعة والثلاثين بين أكبر التجمعات الاقتصادية في العالم، تحتل مجموعة "ميركوسور" المرتبة الرابعة، بعد الاتحاد الأوروبي ومجموعة نافتا واتحاد الأسيان، حيث يفوق ناتج المجموعة المحلي الإجمالي 2400 مليار دولار أمريكي سنوياً، والذي يساوي أكثر من أربعة أضعاف مثيله في المجموعة العربية.
خلال السنوات العشر الماضية تضاعفت صادرات مجموعة "ميركوسور" أكثر من ثلاث مرّات لترتفع من 80 إلى 274 مليار دولار. أما المجموعة العربية فقد انخفضت قيمة صادراتها العالمية خلال العقدين الماضيين من 13% إلى 7%، علماً بأن أسعار النفط ارتفعت خلال نفس الفترة خمسة أضعاف.
أما الدول الخليجية فتحتل المرتبة الأولى عالمياً في استيراد الشعير بكميات ضخمة تصل إلى 60% من الإنتاج العالمي القابل للتصدير، وتقع في المرتبة السادسة في استيراد جميع احتياجاتها من الأرز، فلا زالت من أكثر مناطق العالم اعتماداً على استيراد المواد الغذائية الأساسية، حيث فاقت وارداتها في العام الماضي ما قيمته 27 مليار دولار، لتشكل 19% من قيمة الواردات العربية، مما يؤكد سوء وضع الأمن الغذائي الخليجي، حيث يصل عمق الفجوة الغذائية لديها إلى 90% في القمح، و100% في الذرة، و86% في الشعير، و100% في الأرز، و64% في اللحوم والألبان.
خلال المؤتمر العاشر للوقود الحيوي المنعقد قبل شهر في بكين عاصمة الصين أوضح خبراء الطاقة أنه كلما ارتفع سعر برميل النفط عن 60 دولار فإن منتجي "الإيثانول" يحققون ربحا صافيا مقداره 20 دولاراً، وأن زيادة كمية "الإيثانول" المضافة إلى البنزين بنسبة 15% سوف تساهم في تخفيض سعر بيع المحروقات بنسبة 10%.
لعلنا نقتنع بضرورة إنشاء المخزون الاستراتيجي للغذاء حتى لا نصبح رهينة لاشتعال فتيل أسعار السلع الزراعية في الأسواق العالمية بسبب انتشار الذهب الأخضر.