الحمية للإسلام والغيرة عليه ليست كالحمية للحزب أو الجماعة، حاشا لله أن تكون كذلك، إنما هي حمية وغيرة لدين أنزله الله من فوق سبع سماوات ليكون هاديا للعالمين ومرشدا لهم في اعتقاداتهم وعباداتهم وعاداتهم وسائر سلوكهم ومنافع حياتهم، لذلك وجب أن تكون هذه الغيرة وتلك الحمية منضبطة بضوابط هذا الدين الذي علمنا كيف نحب وكيف نسخط وكيف نرضى وكيف نغضب، وحدّ لنا حدود القول والعمل في كل تلك الأحوال ولم يذرنا لأنفسنا الأمارة بالسوء التّباعة للهوى كي تأطرنا على ما نقول وما نفعل، بل أمرنا أن نكون قيِّمِين عليها مالكين لإربها حاكمين لزمامها.
ومن شاء أن يقول أو يفعل حميّة لدين الله وغيرةً عليه من جنس ما نهى الله عنه وزجر من الأقوال والأفعال فليراجع نيته وخبيئة نفسه، ولا شك أنه سيجد نافثا من الشيطان قد أوقع ما يبغضه الرحمن في فؤاده وسوَّل له انتهاك هذه الحرمات وزينها بزخرف من أحابيله كي يوقع به وبالمسلمين، فالمخلص الصادق هو الذي تسامت حميته وغيرته في دين ربه عن أن يجعلها مطية يرتكب عليها ما حرم الله، ومن لا يصدر فيما يقول وما يفعل إلا عن هدْي من كتاب ربه لن يُعمِيه عن أمر الكتاب فشيطان مندس في الفؤاد يمكر به ليتأول قطعيات المحرمات ويجعلها من أوجب الواجبات.
يحدوني لهذا القول ما انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي من التنافر بخبيث الأقوال من شتى الاتجاهات الإسلامية، ويتأولون ذلك بالحدب على الدين والغيرة عليه والنضال من أجله، وهيهات لقولهم أن يكون صحيحا، فإن التأويل لا يطال قطعي الدلالة من النصوص، وقطعي الدلالة من نصوص الوحيين لا يجيز الخروج في الدفاع عن الدين وأهله عن القول الحسن والكلمة الطيبة إلا في أضيق الحدود وأقل الأحوال، هذا إذا كان الدفاع عن أصل الدين وشرائعه، أما إذا كان الدفاع عن رؤية في السياسة منسوبة للدين قد يرى غيرُك غيرها، أو عن منهج في فقه الدعوة قد اختلف معك غيرك فيه، أو على مسائل في العقيدة ترى أن مخالفك قد ضلّ عنها، فلا مصرِف عن الرفق وقول الحسنى أبدا، فالله تعالى يقول (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا)، فالشيطان يملي لهم التأويلات كي يستحلوا أعراض المؤمنين وفي ظنهم أنهم يطلبون الأجر وما ذلك إلا من نزغ عدو الله، نعوذ بالله منه، كي يتبعه المصلون في العداوة بينهم وإلى ذلك يشير الحديث الصحيح (إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم).
وأبرز مثال في هذه الأيام على البغي بالقول والعمل ما تعرض له فضيلة الشيخ العالم الجليل الزاهد العابد الدكتور ياسر برهامي، حفظه الله تعالى من كل سوء، حيث بلغ البغي في حقه أن تم الاعتداء عليه في ساحة الحرم المدني والحرم المكي أكثر من مرة بالأيدي والألسنة وصُوِّر ذلك وتناقله المفتونون في أخلاقهم مسرورين شامتين، وكأن انتهاك حَرَمِ الله من أجل خلاف سياسي مما يأمر به الإسلام ويحض عليه مع صريح قول الله تعالى (ومن دخله كان آمنا)، وإن كان من فعلوا ذلك ليسوا إلا من غوغاء الناس ودهمائهم جهلا وسفها، إلا أننا لم نجد من غير الغوغاء مِمَّن يخالفون الشيخ في مواقفه من يعلن استنكاره لهذه الفعلة القبيحة ويعتذر مما فعلوه ويبرؤ منه، وهذا ولا شك عندي ليس من ترك قول الحق في محله وحسب، بل من السكوت على الباطل، ومن تأولوا ذلك بالغيرة على الدين ألم يغاروا على حرم الله -عز وجل- أن يُعتدى فيه على مصل وطائف، لا سيما ومن فعل هذه الفعلة من أتباعهم والمنهمكين في قولهم.
وقد استعرضت ما قاله العلمانيون في هذا الرجل من الذم والانتقاص، لكني لم أجد في مقالاتهم عنه ما وجدتُه على ألسنة وأقلام بعض سفهاء من ينتسبون للتوجه الإسلامي (هم بفعلهم سفهاء وإن بلغ بعضهم من المكانة ما بلغ) الذين وصل بهم الأمر إلى وصفه بما لا يليق أن يصف به مسلم مسلما، والكذب عليه ونسبة ما لم يقله وما لم يفعله إليه إلا وهماً من قائله، ولا أدري أين أعزب إبليس عنهم سورة الحجرات حين يقول منزلها عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أَيُحِب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم)، والظن في الآية هو اتهام أهل الخير، وقد أمرنا الله تعالى باجتناب أكثره، فما ليس للإنسان عليه يقين فإنه (إثم) أي جرم وخطيئة، هذا وقد نزلت الآية والأمور أيسر حالا وأقل تعقيدا، فما بالك بيومنا الذي تغيب فيه الحقائق أمام كثرة ما يقال وأصبحت السنوات خداعات كما أخبر عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووجه خِداعها أنه (يُصَدَّق فيها المكذوب ويكذب فيها الصدوق)، فقد نهى الله عن الظن في نقد الرجال ثم نهى عن غيبتهم، أي ذكرهم في غيابهم بما يكرهون ولو كان حقا، أما إن كان بإطلاق واتباعا للظن فهو بهتان كما صح بذلك الحديث.
وليس مطلوبا منك أن توافق الشيخ ياسر في وجهته ورأيه لكن المحرم عليك أن تستبيح عرضه لأنك خالفته، فقد أمر تعالى بالعدل في القول (وإذا قلتم فاعدلوا)، وهو أن تزن الكلام بميزان الشرع فلا تقول في أحد قولا إلا وقد أعددت للسؤال عند الله جوابا، وقد أخبرك الله أنه لا يقبل منك إلا الحسنى ولا يرضى عنك إلا بما استيقنته.
ولمن لا يعرفون هذا الرجل حق المعرفة وقد يعجبون من اختياري له مثالاً على ضحايا الظلم والسفه باسم الغيرة على الدين والعقيدة، فالشيخ -حفظه الله- ولد في سنة 1378 أي أنه قارب الستين وما تشوف إلى منصب أو تقرب لذي سلطان أو ثابر على جمع مال مع تهيؤ الأسباب لكل ذلك، لكنه بذل عمره في تأسيس الدعوة السلفية في الإسكندرية هو وزملاؤه في كلية الطب حتى غدت الإسكندرية منارة علمية لسالكي هذا التوجه في مصر كلها، ثم بذل عمره في طلب العلم الشرعي إلى جانب تخصصه (ماجستير طب أطفال) وبرع في العقيدة والفقه الاستدلالي والأصول ومقاصد الشريعة والحديث، ودرَّس كل هذه العلوم وألف فيها وكان على صلة بابن باز وابن عثيمين وأبي بكر الجزائري وعبدالرزاق عفيفي، وممّا جَرَده من الكتب فتاوى شيخ الإسلام و"فتح الباري" و"نيل الأوطار" والمغني وغيرها. ومن شمائله عفاف اللسان، فلم يعتدِ بالقول حتى على من تطاولوا عليه.
رزقنا الله جميعا عفاف اللسان وطهارة القلب والتزام الشرع.