الكثير منا يريد العيش في أنس وراحة بال، خاصة وهو يتابع نشرات الأخبار الملغمة بالمنغصات، والحق أن أكثر ما أضحكنا في الفترة الحالية هو شخص في تركيبته النفسية والعقلية أبعد ما يكون عن روح الدعابة، فقد عرف بتجهم وجهه وتحجر قلبه، وهو بالمجمل يوحي بالتقزز إلى حد أني قادرة على الجزم بأنه مكروه على الصعيد العام والخاص معا، فمجتمعه يعرف إعوجاج عقله وفكره وإصابته بداء العظمة.
ومؤخرا خرج على العالم بنكتة لو دخلت في مسابقة هزلية لنالت الجائزة الأولى دون منازع، إذ قال الكوميديان "نتانياهو" في كلمته أمام المؤتمر الصهيوني العالمي في القدس: إن هتلر لم يرد قتل اليهود، فقد أراد طردهم، ولكن "أمين الحسيني" ذهب إليه وقال له: إن طردت اليهود فسيأتون إلى فلسطين، فسأله هتلر "ماذا أفعل؟" فأجاب حسب رواية نتانياهو: "احرقهم"!
كان طبيعيا أن يستهجن العرب الفلسطينيون مقولة "نتانياهو" ويستخفون بها، لكن أن ينبري الصهاينة والألمان لإنكارها أمر يستحق التأمل.. فقد كانت كذبته أسخف من أن تصدق.
وممن أنكرها أستاذة بجامعة تل أبيب ورئيسة المؤرخين في متحف "ياد فاشيم" الصهيوني عن المحرقة النازية "دينا بورات"، فقد أكدت أن تصريحات رئيس الوزراء "بنيامين نتانياهو" لم تكن "دقيقة تاريخيا". وأشارت إلى أن القول بأن المفتي الحاج "أمين الحسيني" هو أول من أشار على "هتلر" بفكرة قتل اليهود أو حرقهم قول غير صحيح، ففكرة تخليص العالم من اليهود كانت فكرة محورية في عقيدة "هتلر" قبل أن يلتقي بالمفتي بفترة طويلة، ففي خطاب ألقاه أمام البرلمان الألماني في يناير 1939 تحدث "هتلر" عن إبادة العرق اليهودي..ثم إن قتل اليهود بدأ في يونيو 1941 أي بعد لقائه بالحاج "أمين الحسيني" بشهرين، ثم أبدت تعجبها من صدور هذه المقولة عنه وهو ابن أستاذ التاريخ "بنزيون نتانياهو".
هذا الموقف المنكر والمستصغر لفكرة "نتانياهو" لم يكن فريدا من نوعه، فقد رفضها واستخف بها كثير من الصهاينة ومن غيرهم إلى درجة أن المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" صرحت في ندوة صحفية عقدتها مع "نتانياهو" في برلين: "لا نرى أي موجب لتغيير نظرتنا إلى التاريخ بخصوص هذه القضية، سوف نواصل تحمل المسؤولية الألمانية في المحرقة"، كما أضافت: "باسم الحكومة الألمانية وباسمي الخاص يمكن أن أقول: إننا واعون بمسؤولية النازيين في ذلك الشرخ الحضاري الذي تمثله المحرقة ضد اليهود. ونحن مقتنعون أنه يجب بث ذلك للأجيال القادمة عبر التعليم المدرسي مثلا".
لا أعرف كيف كان الشعور الداخلي "لنتانياهو" ساعة سماعه للمستشارة "أنجيلا ميركل" هل ارتفع ضغطه وتسارعت دقات قلبه بشكل مفاجئ، فقد كان يعتقد دون شك أنه سينال ثمن أكذوبته وتبرئته لمن حملوا جرم الهولوكوست لعقود! بإلقائها على أعدائه الفلسطينيين، ولا أستبعد أنه رتب أوراقه لاستثمار مضامين كذبته مع مستشاريه، فقد اعتقد أنه سيصيب عصفورين بحجر واحد، سينال دعما عسكريا وسياسيا من ألمانيا يستخدمهما في تشويه الانتفاضة الفلسطينية الحالية، وفي تأجيج الصهاينة للقيام بالمزيد من العمليات الإرهابية الهستيرية ضد الشعب الفلسطيني، خاصة بعد أن أجاز نتانياهو حمل الصهاينة للسلاح واستخدامه، وجدير بالإشارة هنا أن موقف المستشارة "ميركل" من هذه القضية هو موقف الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" و"جون كيري" والسلطة الفلسطينية بطبيعة الحال.
وليت العالم في خضم استيعابه لكذب هذا الرجل يستوعب أن المحرقة التي عمد اليهود لقرون إلى تجسيد معاناتهم تحت يد نازية من خلال الحديث عنها، عمد "نتانياهو" للاتجار بها لحساب الصهيونية ودفاعا عن سياستها العنصرية ضد الفلسطينيين، فانتماؤه وحكومته للصهيونية أعظم من انتمائهم لعرقهم ودينهم، وهو لا يجد أي غضاضة في تزييف التاريخ ولو على حساب اليهود إذا كان هذا التزييف يصب في مصلحة الصهيونية العالمية.
لا أشك مطلقا أن "نتانياهو" أراد تبرير العمليات الهمجية التي تمارس بشكل يومي ضد الشعب الفلسطيني سواء من سلطة الاحتلال أو من المستوطنين، بل أراد من العالم تصديق مقولته وأراد من الصهاينة ترويجها عالميا، ولا أستبعد أنه رتب لخطابه ذاك، وهو بفعل هذا ذكرني بالمدعو "الوليد بن المغيرة" الذي قال الله سبحانه فيه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ". لقد جلس مفكرا هو وزبانيته في تنفيذ ضربة سياسية موجعة مخططا لضربات إرهابية استباقية تفسح المجال لمنع الفلسطينيين من الأقصى ومن ثم هدمه وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، لذا أمعن في التفكير والتخطيط، واعتقد أنه فصيح بما فيه الكفاية ليغيب عقل العالم عن حقيقة منفذ المحرقة التي شهد بها القاصي والداني.. وشهد ويشهد بها اليهود والألمان قبل غيرهم.. وليجر أذيال خيبته خلفه. فقد أضحك العالم على حمق وغباء تمكنا منهما أشد التمكن.. ويستحق على استعراضه تصفيقا حادا ولقب "كوميديان القرن".