بعد أن تخلص العالم الغربي - المسيحي الهوية طول تاريخه القديم- من عقدة الكنيسة وسيطرة رجالها، وبعد أن تعلموا من دروس الحروب التي طحنت أوروبا في النصف الأول من القرن الماضي؛ تمكن الغرب من الخروج برؤية ثقافية وسياسية يمكنها أن تكون عالمية وأن تدخل كل بيت، وفكرتها باختصار هي وضع آليات سلمية قادرة على احتواء كل الأطياف والاختلافات بشكل حضاري.
السؤال اليوم؛ هل يمكن أن يكون الفكر الإسلامي عالميا ومعولما؟
بعيدا عن الممارسات والأفكار الحالية من رعاة ما يسمى بـ"الفكر الإسلامي"، وبعيدا عن طرح خصومهم الذين يرون مجرد الطرح المبني على أساس ديني سببا للتقسيم والتشرذم؛ سأحاول نقاش الفكرة وإمكانية نجاح فكر يعالج بعض الأزمات التي يسببها الطرح التقليدي من الإسلاميين.
الكثير من المحللين يرون أن من أهم مشكلات تيارات الإسلام السياسي أنها تطرح حلولها من زاوية مذهبية أو رؤية يتبنونها على أنها الإسلام، ولا يرون شرعية حتى لبقية التيارات أو المذاهب الإسلامية الأخرى، وهذا الكلام ينطبق على أغلب هذه التيارات بما فيها السنية والشيعية. بل حتى داخل التيار الواحد؛ فإنها غالبا لا تقبل تعدد الرؤية، وغالبا تحتكر الرؤية الصحيحة للإسلام. وبالإصرار على هذه الطريقة؛ فإن مستقبلا أسود ينتظرنا، حيث نجحت تلك التيارات في جرّ المنطقة بأسرها للتحارب الطائفي المقدس والمحتقن (على رأسها نظام طهران).
أعود للسؤال أعلاه؛ وأقول إننا إذا تأمّلنا في تفسير كل تلك الطوائف والتيارات للإسلام فإنك تجدها تستند على تفسيرات واجتهادات بشرية وتكفر وتقتل خصومها لأجل تلك التفسيرات البشرية في الحقيقة، وليس دفاعا عن الإسلام ذاته في نظري، كونهم قد اقتنعوا أو أقنعوا أنفسهم بأنها تمثل لهم الهوية والوجود بالنسبة لهم فقط.
جوهر الإسلام هو توحيد الله وتسليم كل أنواع العبادة له وحده، وإذا كان الإنسان يتعبد الله بما يعتقده هو أنه الصواب من خلال قراءته وتفسيره للقرآن والسنة النبوية؛ فإن مقتضى التوحيد وواجباته تقول إن على الإنسان أن يتبع ما يراه صوابا وليس ما يراه الآخرون المقدّسون (مشايخ أو آيات أو غيرهم)، ولكن الحقيقة أن أغلب تلك الحركات الطائفية لا تقاتل في الحقيقة إلا لأجل إسلام الطائفة أو التيار وأفكاره التي قد يتبين لهم أنفسهم بعد فترة أنهم كانوا يقاتلون على خطأ أو ضلال كما حصل هذا كثيرا في التاريخ المعاصر.
لا يعني كلامي أن الإنسان حرٌّ مطلقا في تفسير النصوص، وإنما يجب عليه في حسابه لنفسه أن يتبع الوسائل العلمية الصحيحة في التفسير والقراءة، ولكن الله لم يجعل أحدا وصيا على الناس يجبرهم برؤيته هو، وهو ما وقع فيه كهنوت الكنيسة التي تحتكر تفسير الكتاب المقدس!
الحقيقة أن كثيرا من الفقهاء يخلطون بين وجوب اتباع النص، وبين مقتضى التوحيد بمنع وجود وسائط في تفسير النص وفهمه! وتتداخل هنا شهوة النفس بتقديس ذاتها وآرائها وشهوة تطويع الآخرين لها، كما تأتي الطامة الأكبر وهي استفادة وتدخلات الأنظمة في فرض رؤية محددة كونها تصب في صالح تعزيز قوتهم وسيطرتهم على الناس باسم الله! ويأتي السذج والسفهاء ليكونوا حطبا لهذا وذاك ويحترقون معا ويحرقون معهم البلد والمنطقة كلها.
هذا الكلام ينطبق على أغلب التيارات الدينية الحالية السنية والشيعية، وإن كان أسوأ حالاته يظهر جليا في الحركات الأكثر تطرفا مثل داعش التي تقتل وتكفر على مجرد الآراء المتطرفة الخاصة بقيادة التنظيم، وإن كانوا نظريا لا يعتقدون القداسة في قيادتهم. ولكن بالنظر للفكر الشيعي حسب الرؤية الإيرانية؛ فإن الحالة أسوأ من هذا الجانب، فهي تعتقد القداسة في ذات المرشد، وتحظر حتى النقد والاختلاف معه، وإذا تجاوزنا هذه النقطة أيضا؛ فإن الحالة أسوأ مع مبدأ المرجعية وإلزام الأتباع بالتقليد لرأس المرجعية الذي ليس هو إلا بشرا يخطئ ويصيب، ولذلك نشاهد وبوضوح ضعف الفكر النقدي والمراجعات داخل التيارات الشيعية الاثني عشرية، والسبب بوضوح ضعفُ القدرات العقلية المستقلة في التفكير خارج إطار ما اعتادت عليه.
إنه طالما بقينا ندور حول محاولة فرض رؤية محددة للإسلام والاحتكار لها؛ فإن الوصول لفكر معولم قابل لاحتواء أنفسنا أولا ثم الآخرين بعيد المنال، ولن يتحقق طالما أن التيارات المتطرفة تحاول أن تتحكم بنا وبمصيرنا. ولا يمكن لنا أن نخرج من بوتقة الطائفة والفكر المحلي إلا بنظرية الحرية المقدسة التي تفرضها نظرية التوحيد، وأن الناس متعبدون لله ومتروكون له في كل ما يخص دينهم وأفكارهم الشخصية لتكون بينهم وبين الله وهو حسيبهم.
لنتأمل في تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع رأس المنافقين عبدالله بن أبيّ سلول عندما قال قولته الخبيثة (ليُخرجن الأعز منها الأذل) وهو يعني المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك تركه ولم يُطلق عليه حتى كلمة الكفر، ولم يستدْعِه ويحاسبه، بل لم يُرسل له أحدا يحتسب عليه أو يناصحه! ولو وقع أن لُمز بعض قيادات التيارات المتطرفة اليوم لقامت الدنيا ولم تقعد واتهموا المسؤول بأنه يحمي المنافقين أو أعداء الدين، وهكذا من أصناف تسييس الخلاف واستغلال الدين فيه!
أعود وأقول؛ إننا نحمل رسالة وفكرة عظيمة يمكنها أن تكون الأولى في العالم دون أن نحمل سلاحا أو أن نهدّد أحدا، ولكن بشرط أن نكون مخلصين للإسلام النقي فعلا، وليس لأفكار واجتهادات حملته مهما كانت منزلتهم.
كتبت هذه المقالة راجيا أن تفيد في تفتيت حجارة أزمة التشدد والطائفية اليوم.