حين نصغي لصباح فخري وهو يقول "لو المطال طال وطول لا بتغير ولا بتحول" نفهم أن مهما كان هنالك من تغيرات فالثبات على المبدأ واحد، وفي حالته "الحب"، أم في حالة بعض ممن نطلق عليهم المثقفين العرب أو المفكرين العرب نجد أنهم في هذه الأيام يتخبطون في أقوالهم وكأنهم ساسة الغرب الذين يخرجون علينا كل يوم بتصريح ينقض الذي قبله!
قد يتبوؤون مناصب أو يعملون في مجالات عدة، الرابط هنا هو الثقافة التي يدعون امتلاكها ومن خلالها يتربعون على شاشات التلفاز أو صفحات الجرائد أو شبكات التواصل الاجتماعي، ومن هذه المنابر منهم من يعيد تقديم ما شاهده أو قرأه، بمعنى أنه تحصل على المعلومة لكنه لم يقم بمعالجتها فكريا فيكون كالمستودع يجمع، يخزن ويوزع، ولغزارة معلوماته نقف إجلالا وتكبيرا لهذا الكم من المعلومات، ولكن ماذا بعد...لا شيء، لأنه لا يساعد المتلقي على كيفية تحليل ومن ثم استخدام هذه المعلومات؛ بمعنى نقل وتخزين من مستودع إلى آخر! ومنهم من يحاكم المعلومات فكريا، فإن جاء الحكم على هواه أخرجه إلينا بدون أي تعديلات أو تغييرات، وإن لم يكن كذلك عمل عليه بكل جهد وتفان بحيث يظهر بالطريقة التي يسوق المتلقي للاستنتاجات غير تلك التي ظهرت عليها بالأصل، فتراه يأتي بالأدلة والبراهين التي قد تكون موثقة ومن مصادر رسمية، لكن هذا لا يعني أنها حقائق لمجرد أنها صدرت عن هذا المختص أو ذاك، ألا يمكن أن يكون هذا المختص مسيّساً وقدم معلوماته لتتفق مع أجندات لجهة معينة، ومثقفنا الفذ يدرك إمكانية هذا الاحتمال تماما لا، بل قد يكون متأكدا منه، ولكن بما أن هذا ما يريده، لا يتوقف عند المبادئ أو القيم، فالمنظومة القيمية التي تشكل الأرضية التي تعكس سلوكه ترتكز على المصلحة الشخصية، فبالنسبة إليه ولأمثاله الغاية تبرر الوسيلة، والغاية هنا أن يجعلك تفكر بما يريده لك أن تفكر لتسلك الطريق الذي يريدك أن تأخذه، والناتج تضليل وتشتيت فكري قد يصل إلى حد تمزيق اللحمة الوطنية أو أكثر من ذلك الوحدة العربية!
يقال إن كل مثقف نبيل، لأنه بعد أن تحصّل على المعلومة وعالجها ووصل إلى استنتاجات يقوم بتوعية مجتمعه من أخطار تهدد أمنه وترابطه، أو مساعدته على التوصل إلى كيفية مواجهة التحديات اليومية، أو الارتقاء به فكريا وثقافيا، ولكن الواقع من حولنا يبين شخصيات سلبية كرّست ثقافتها بشكل غير سوي، ومن ينتمي لهذه النوعية يتخذ، ما بين الفترة والأخرى، موقفا جديدا يتماهى مع المتغيرات السريعة التي تحدث على أرض أمتنا العربية، ويجد له ما يدعمه كما يقول المثل: "لساني لا عدمته كيف ما رغبت أدرته"! ولهذا فإن الازدواجية في المعايير، وهي مرض العصر، هي أداته المفضلة؛ من يُقتل في بلد ما شهيد وضحية إرهاب، ومن يقتل في بلد آخر ضريبة حرب، والقاتل واحد ينتمي إلى المدرسة الفكرية التكفيرية الإرهابية نفسها، ومن يطالب بحق في مجتمع ما يُسانَد ومن يطالب بحق في مجتمع آخر يواجه ويحارب، أما حب الوطن فحدث ولا حرج، فلقد أصبحت الوطنية توزع كصكوك الغفران، وأصبح الفرد المختلف في الرؤية أو المذهب أو التوجهات متهماً إلى أن تثبت براءته، حسبما يرى ويروج السيد الفاضل المثقف وإلا تم الإقصاء والسلخ ومن ثم الهجوم، المشكلة هنا أنه أحيانا يكون هذا المثقف لا ينتمي لنفس مجتمع أو بلد من يحارب، والمشكلة الأكبر حين تجد من يتابعه ويصغي إليه ويؤيده من مجتمع الشخصية المُستهدفة نفسه! وليس أقبح من أن يأخذ هذا النوع من المثقفين وضعية الضحية "ويصرخ ويقول يا دهوتي"، وذلك حين يجد نفسه في خانة "اليك" وأن ليس لديه ما يرد به بعدما أن تمت مواجهته بحجة أو دليل شرعي أو منطقي أو حتى إنساني، لهذا تجد منهم من يختلق أعداء وهميين ليلعب من خلالهم على مشاعر أتباعه فيتحول الانتباه والتركيز من القضية محور النقاش إلى قضية "فزعة"، وبالتالي يخرج هو منها مثل الشعرة من العجين ويطلق أتباعه لينهشوا بالخصم، وعندها يستدير ويشحذ همته ليستمر في التضليل، حتى لو تم كشف وتحدي مغالطاته مرة أخرى، لا يهتز برأسه شعرة لأن الأخ "متمسح" لا ندم أو خجل، ويستمر في غيه وكأن شيئا لم يكن، ولماذا؟ لأنه متأكد من أن أتباعه الذين تم تدجينهم سوف يستمرون في تأييده، بل هم من سيجد له التبريرات!
لنتذكر هنا أن الهدف ليس سوى نشر الفتنة وتمزيق اللحمة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد والأمة الواحدة! وعليه فإن من واجب كل فرد منا أن يدرب نفسه ويسهم في خلق الفرص لغيره للتدرب على كيفية البحث عن المعلومات، وقراءة وجهات النظر المختلفة، ومن ثم التحليل والمقارنة والقياس من أجل التوصل إلى الحكم الموضوعي على ما يُعرض، فإن كان فيه ما هو خير للوطن والأمة لنأخذ منه ونبني عليه، أما إن كان ما يُعرض ليس سوى تفضيل فئة أو فكرة أو رؤى وشيطنة أخرى، فهنا يجب أن نقف ونواجه بالتوعية ونشر المعرفة كي لا نسمح لأحد بأن يجعل منا سلاحا يستخدمه للهدم والتفرقة.