الإسلام دين حياة، ولذلك فقد جاء خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمنهج حياة متكامل يتعامل مع الإنسان بكليته جسدا وعقلا وروحا ويرعى مصالحه، ومن هذه المصالح أو المقاصد العليا للشريعة الإسلامية حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل أو العرض أو النسب وحفظ المال، والتي وصفها الشرع بأنها مصالح ضرورية.

وسأتناول في مقالي هذا مقصد حفظ النفس، والمراد بالحفظ هنا هو حفظ النفوس والأرواح من التلف، وليس المراد حفظها بالقصاص كما فهمها بعض الفقهاء، بل وذهب الكثير من الفقهاء إلى أن القصاص هو من أضعف أنواع حفظ النفس لأنه يعد من باب التدارك بعد الفوات.

وأساس الحفظ هو الحماية من التلف قبل وقوعه، كالأخذ بأسباب الصحة والوقاية من الأمراض قبل حدوثها والأوبئة قبل انتشارها.

والمراد بلفظ الأنفس في الاصطلاح الشرعي هو الإنسان بكليته جسدا وعقلا ونفسا وروحا وهذا هو الاستعمال الغالب في القرآن الكريم كقوله تعالى "قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق"، والمراد بها قتل الإنسان بكليته المادية والمعنوية.

ولذلك فإن العلماء عندما يتحدثون عن النفس فإنهم يتحدثون عن البدن والعقل والنفس والروح، ويراد بالبدن الجسد أو الجسم الذي أشار إليه الله في القرآن الكريم في قوله "خلق الإنسان من صلصال كالفخار" [سورة الرحمن: الآية 14] وقوله تعالى "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين" [سورة ص: الآية 71]، ولذلك فإنه غير صحيح أن يدرج موضوع الأخذ بأسباب رعاية الجسد لتحقيق سلامته وصحته تحت باب المصالح الحاجية أو التحسينية، ففي هذا خلل في فهم دور الجسد، فهو وعاء العقل والروح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكل ما يضر بالجسد ويضعفه ويوهنه يؤدي إلى هلاكه ومعه هلاك الإنسان بكليته جسدا وعقلا وروحا، ولذلك صرح الفقهاء بقاعدة (صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان)، وقليل منهم ركز على جانب العناية بالجسد والغذاء وما يصلح للجسد من أغذية وأطعمة وكيفية الأكل وكميته ونوعيته وأفضل أوقات تناوله.

والإسلام ينظر إلى الطعام كوسيلة لا غاية، وسيلة لبناء جسم الإنسان ونموه وحفظه من العلل والأمراض وتقويته للقيام بدوره الذي خلق من أجله، وسأتناول هنا عاملا واحدا من عوامل رعاية مصلحة حفظ الجسد والتي هي من باب حفظ النفس، وسأفصل في هذا العامل وهو الغذاء والطعام، وكيف نظم الشرع هذه الوسيلة لتحقيق الغاية من خلقها من مد الإنسان بأسباب البقاء والقوة والنماء، يقول الله سبحانه وتعالى "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" [سورة الأعراف: الآية 31].

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنٍ بحسْب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه".

وهذا الحديث يعد أصلا من أصول الطب النبوي الشريف، ولننظر للدقة العجيبة في هذا الحديث.. أولا: تعريف أن البطن وعاء يجلب الأمراض والأسقام في حالة امتلائه، وهذا مفهوم لم يكن معروفا آنذاك، ففي أوروبا وإنجلترا يتحدث الطبيب "ناشين" عن عقيدة البروتستانت يقول "لست أدري ما عليه الأمر في البلدان الأخرى ولكن نحن البروتستانت لا نعتبر الإفراط في الطعام مؤذيا ولا ضارا حتى أن الناس يحتقرون أصدقاءهم الذين لا يملؤون بطونهم عند كل وجبة طعام، ولم يتنبه علماء أوروبا لهذه الأخطار إلا بعد أعوام طويلة في عصر النهضة حين حذر أحدهم وهو "كارنارو لودليك" من البندقية، من هذه الأخطار فيقول: "يا إيطاليا البائسة المسكينة ألا ترين أن الشهوة تقود إلى موت مواطنيك أكثر من أي وباء أو حرب كاسحة" ويقول: "إن هذه المآدب المشينة التي هي واسعة الانتشار اليوم لها من النتائج الضارة ما يوازي أعنف المعارك الحربية".

يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قبل مئات السنين من ذلك: "أصل كل داء البردة، أي التخمة". وقال سيدنا عمر: "إياكم والبطنة فإنها مفسدة للجسم مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فإنه أصلح للجسد وأبعد عن السرف، وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء".

ثم يحدد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكمية والنوعية فيقول صلى الله عليه وسلم: "لقيمات يقمن صلبه" أما الكمية في قوله لقيمات وأما النوعية في قوله يقمن صلبه أي يتخير من الطعام النوعية التي تمده بالطاقة، فهناك أغذية ذات قيمة غذائية عالية وأخرى ليست كذلك، ثم يفصل أكثر في الكمية فيقول: "فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"، وفي هذا إعجاز علمي، فثلث المعدة يطابق تماما حجم هواء التنفس.

والمقارنة بين أقصى حجم للمعدة يمكن أن تصل إليه وهو حوالي اللتر ونصف وبين الحجم المادي للتنفس الطبيعي للإنسان “Tidal volume” يبلغ حوالي 500 ملليمتر من الهواء، أي بمعنى آخر يتبين أن حجم الهواء الداخل للرئتين يمثل ثلث حجم المعدة، وفي هذا إعجاز نبوي (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) [سورة النجم: الآية 4].

وفي دراسة حديثة تبين أن خفض كمية الطعام بنسبة 40% يؤدي إلى إطالة العمر بمقدار 20 عاما، وقد قام بهذه الدراسة باحثون في معهد "صحة جامعة لندن" “UCL Institute of Healthy Ageing”.

إن الإفراط في الطعام من أهم عوامل أمراض السمنة والتي تؤدي إلى أمراض عديدة وجسيمة ولا يكاد يستثني عضوا أو نسيجا إلا ويؤثر فيه سلبا.

وتتزايد الأدلة العلمية التي تؤكد أن السمنة وزيادة الوزن لهما تأثير سلبي مباشر على الصحة، كارتفاع ضغط الدم وارتفاع نسبة الكولسترول واحتمال الإصابة بمرض السكري وأمراض القلب وتشحم الكبد وحصوات المرارة وروماتيزم المفصل الغضروفي بالركبتين، بل وزيادة نسبة الإصابة ببعض أنواع السرطان.

وفي مقال قادم بإذن الله سنتحدث عن (الطعام بين إيذاء البدن وحفظ النفس) ونستعرض مخاطر الإفراط في الطعام، وسنرى أن للصوم آثارا إيجابية عظيمة على الجسد، حيث اكتشف العلم الفوائد الفيزيولوجية للصوم بعد زخم كبير من الدراسات العلمية والأبحاث الطبية الدقيقة.