لم يعد ممكنا أن نحمل معنا أصفادنا أينما رحلنا، العالم يتبدل، وبين أقصى شمال الكرة الأرضية وأقصى جنوبها صارت المسافات تقاس بأجزاء الثانية "وهي الوقت الكافي لإجراء اتصال ما عبر واحدة من مئات الوسائل المتاحة"، وبتركيب التعابير القديمة على الوسائل الحديثة صارت المسافة بين قطبي الكرة الأرضية مرمى حجر لا أكثر.

الاكتشافات العلمية الجديدة صارت قديمة، وهي تصبح كذلك كل يوم، الكهرباء وتطبيقاتها، قفزات الميكانيك لم تعد إنجازا بشريا متقدما أمام ما يحققه علم الجينات البشرية، والنظريات التي صنفت كثورات، انشغل الناس بمعارضتها وتفنيدها، أو بشرحها والدفاع عنها، أصبحت اليوم بديهيات مكررة ومسلمات مألوفة.

إذًا، قرنا الثور لا يحملان الأرض، والشمس لا تدور حولها، والانفجار الكوني الكبير قد لا يكون أكبر مفاجآتنا، وربما يكون فكرة بدائية بسيطة ضمن سياق المفاجآت الكونية المتواصلة.

وربما يجدر بنا الانتباه، أن لا شيء جديدا في الكون، وكل ما حصل قد حصل منذ الأزل، عقولنا هي من تتغير، وتتوسع، وتزداد قدرتها على الفهم والانتباه.

قد نستيقظ ذات صباح لنكتشف أن علاج جميع الأمراض المستعصية بات في متناول العلماء منذ الليلة الفائتة، وأن المورثات التي تحدد معدل الذكاء البشري قد استعيض عنها بحبة دواء متوفرة في الصيدليات العامة، وأن عقل آينشتاين وحساسية بتهوفن وخيال جابريل جارسيا ماركيز، هي خلاصة متواضعة مقارنة بعقول نطفنا الملقحة بالحبة الدوائية القادمة.

ربما أيضا نكتشف في الغد أننا أصبحنا جميعا قادرين على التواصل عبر التخاطر، وأننا قادرون على التفاهم دون حاجة إلى مترجم للغات التي نعرفها اليوم.

كل هذا قد يحدث، ولكن من الممكن أيضا أن ننقرض جميعا، وهذا احتمال مرجح، بعد أن تحولنا إلى قتلة ووحوش ومرضى نفسيين، نقتل بعضنا، ونقتل أنفسنا، ونقتل الطبيعة التي ننتمي إليها، وندمر الكوكب الذي وجدنا عليه، والمجتمعات والمدن التي بناها أجدادنا.

أتخيل المشهد، وقد خلت الأرض من سكانها، وبقي رجل واحد يتبادل حوارا مع كائن فضائي مهتم بفهم آليات تفكيرنا نحن البشر، وكيف تمكنا من تدمير أنفسنا بهذا الغباء، لنفترض أن الرجل الأخير هذا عربي ومسلم بالصدفة البحتة، وقدّر له أن يكون المتحدث الأخير باسم النوع البشري، وأنه سينقل للحضارات الأخرى في الكون خلاصة تجربتنا، ليجنبهم أخطاءنا، فما الذي سيرويه هذا الرجل، وما رؤيته المحتملة لنهاية عالمنا، وانقراض نوعنا؟

بالتأكيد لن يحكي له عن تدمير البيئة وقطع الغابات، وعن النفط والغاز ورفع حرارة الأرض، ولا عن الأسلحة النووية، والصواريخ العابرة للقارات، لن يُسمعه قصصا عن الجوع والغنى، وعن لا عدالة العالم، عن البذخ هنا والقلّة هناك، لا عن ثقب الأوزون، ولا عن ذوبان المحيط المتجمد.

هل سيشرح شيئا له علاقة بالإسلام المعتدل والإسلام المتطرف؟ هل سيشرح له عن نظرية المؤامرة وإسرائيل؟ هل سيعزي الأمر إلى ديكتاتوريات عربية؟ على الأرجح أنه سيفسر نهاية العالم رابطا إياها بالانحطاط الأخلاقي الذي أغرقت أميركا به العالم، وابتعاد الناس عن أخلاق السلف الصالح، وانتشار الموبقات، واستخدام البدع والاختراعات الحديثة التي لم تكن في زمن أجدادنا، وربما يشط قليلا، إذا ما رآه مستمعا جيدا، ويضرب مثالا عن الخطأ البشري الكبير الذي استعاض بالأدوية والعمليات الجراحية عن بول البعير.

ولا بد أنه سيضيف لمسة من تلك العبارات التي تتحدث عن تفوق العرب الحضاري، والقفزات الكبيرة التي أسهموا خلالها في تطور النوع البشري، والاختراعات الكبيرة التي قدموها للإنسانية، وقد يحدثه عن ابن سيرين وعظمته بالمقارنة مع سخف فرويد، وعن بحور الفراهيدي وعمقها مقارنة مع بحور ماجلان، وعن اكتشاف أطلال برقة ثهمد "التي كانت لخولة في معلقة طرفة بن العبد" بدلا من اكتشاف كريستوفر كولومبس لأميركا، وعن علم الكلام لا عن علم الفيزياء.

أشكر الله أن الأمر برمته خيال في خيال، وأنه ليس خيالا علميا حتى، ففي كل هذه التهويمات لا وجود لذرة علم واحدة، كما معظم ما نقول ونفعل في هذا العالم الذي يبتعد عنا كل يوم.