ما زلت أذكر تلك السيدة العجوز التي دعتني إلى مشاركتها طبق "الكشري" الصغير أمام أحد مكاتب الاقتراع، في أول انتخابات برلمانية شهدتها مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير.

الصف كان مكتظا بالناخبين، والانتظار قد يطول لساعات، فافترشت الأرض تنتظر دورها، بادرتها بالسؤال عن سبب نزولها للمشاركة رغم تقدمها في السن؟ حينها رمقتني بنظرة حملت بين طياتها كثيرا من الأمل قائلة: "انتظرت 30 عاما ولن يزعجني الانتظار بضع ساعات، لأضمن مستقبلا أفضل لأحفادي".

كم تغيرت الأمور في مصر منذ ذلك الحين، فنظرة سريعة على نسب المشاركة المتدنية في الدورة الأولى من انتخابات هذا العام تشير بوضوح إلى فقد المواطن المصري البسيط الرغبة في صناعة التغيير، هذا التغيير الذي دفع بالشباب يوما ما للنزول إلى الشارع، مطالبين بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية ولا أكثر من ذلك، فوجدوا أنفسهم بين فكي كماشة تحكمها القوى والأحزاب السياسية التي ما لبثت أن تسلقت على أكتاف هؤلاء الشباب وسرقت أحلامهم الصغيرة.

في انتخابات عام 2011 كان هناك جو من الإيجابية والتفاؤل تشعر به رغم شظف العيش في مصر، ورغم امتعاض البعض لأن "الإخوان" اكتسحوا نتائج تلك الانتخابات، ليس لأنهم الأفضل، بل ربما لأنهم كانوا الأكثر تنظيما وقدرة على حشد الصفوف منذ سنوات، والأكثر قربا من رجل الشارع الذي لا يعنيه من أمر السياسة شيئا، سوى الحصول على قوت يومه في مصنع، وعلى مقعد لطفله في مدرسة، وعلى سرير لزوجته في مستشفى.

هذه الفرصة لم تكن متاحة أمام شباب الثورة، بل لم يمنحوا حتى الوقت الكافي للحصول عليها، وهم الذين كانوا بصدد البحث عن مشروع وطني صادق يمثلهم ويكرس أحلامهم واقعا على الأرض، وعن قدوة سياسية قادرة على الإبحار بهذا المشروع إلى بر الأمان، وفي ظل غياب المشروع والقدوة تحولت تلك الأحلام البسيطة إلى هموم يعيشها المواطن البسيط كل يوم.

في انتخابات هذا العام غاب "الإخوان المسلمون" عن المشهد، فلم تتغير الأمور كثيرا، ما زال المال السياسي يحرك صناديق الاقتراع، ولا يزال المواطن المصري يرزح تحت معاناته اليومية التي ازدادت مع انعدام الرؤية الواضحة لأي بصيص أمل يلوح في الأفق، فنجد مئات المصريين يختارون حشر أنفسهم مع جموع المهاجرين إلى الشمال عبر قوارب الموت!

محطة تلفزيونية فرنسية قابلت شابا مصريا كان عالقا مع مجموعة من السوريين في محطة قطار بودابست عاصمة المجر، فسألته عن سبب مجيئه وهو يعلم أنه لن يحصل على حق اللجوء أسوة بالآخرين، لأن مصر ليست بلدا مهددا بالحروب والمخاطر، فأجاب بكل هدوء وبلغة عربية ترجمت إلى الفرنسية: "الموت مع الناس رحمة وإن لم تمنحه أوروبا حق اللجوء فلتلق به في مياه المتوسط خير من أن يعود أدراجه ثانية"!

كم هو محزن أن يكون الموت خيارا مطروحا على أجندة شاب لم يكمل الثلاثين من عمره، وكم هو مؤلم عندما نكتشف أن أمثال هذا الشاب كثر، وأنهم هناك على الضفة الأخرى من المتوسط يتوسلون فرصة تحملهم إلى أرض أخرى يكون فيها "الحلم" حقا مشروعا، ويكون تحقيقه أمرا متاحا، بعد أن صم الوطن أذنيه عن سماع صرخاتهم وأعادهم إلى نقطة الصفر من جديد.