جاءتني قبل أيام نعوة عبد الصبور شاهين رحمه الله، ونحن عرفناه عن طريق مالك بن نبي، ويبدو أنه كان يترجم له أو يساعد في نقل أفكاره، والعمالقة يحملون الآخرين فيعرفهم الناس، ولولا مالك بن نبي ماسمعنا به إلا من خلال محنة نصر حامد أبو زيد؛ فقد كان هذا النزاع المزعج بدون مبرر خلف تطليق زوجة الأخير بفتوى أزهرية، ولا جديد في هذه الفتاوى السلطانية، والرجل لحقته أي أبو زيد زوجته إلى المنفى في هولندا، وبذلك ساهم شاهين في رفع أسهم أبو زيد بدون أن يدري، ومن أعجب ما قرأت لاحقا أن نفس عبد الصبور شاهين حاول أن يكتب في الانثروبولوجيا الدينية، ومحاولة التوفيق بين الأبحاث العلمية الجديدة في تاريخ الإنسان والنص الديني، فهجم عليه من جماعته من أذاقه نفس الكأس، التي أذاقها هو لنصر حامد أبو زيد، وهو إن دل على شيء فهو يدل على أن سيف التعصب مصلت على رقاب الجميع بمن فيهم من استخدمه، كما وصلت المقصلة إلى رقبة روبسبير في الثورة الفرنسية بعد أن أرسل إلى المقابر طبقة كاملة من الارستقراطيين إلى المدفنة بدون رؤوس.

والمهم فقد جاءني في النعوة أن الرجل أي شاهين ترك خلفه أكثر من تسعين كتاباً، والسؤال: إنه جهد مبارك ولكن هل هو ترداد لشيء موجود وإعادة لما كتب؟ أم فيه إبداع جديد وثورة معرفية؟ مايسميها توماس كون في كتابه (بنية الثورات المعرفية) عن النماذج الإرشادية (Paradigms) كيف يتقدم مفكر بطرح جديد يقلب التصورات في العلوم أو المفاهيم السائدة.

ولعل القرآن يعتبر الكتاب رقم واحد في العالم الذي أنبت وأنتج أمة كاملة، وبتعبير المفكر قطب جيل قرآني فريد، ويعزي ذلك إلى ثلاث عناصر:

ـ ذهن بدوي بسيط لم يتعقد فلسفيا أو يستعبد من حكومات مركزية.

ـ وثانيا أن هذا لم يكن ممكنا لولا أن القرآن تنزل على مكث كما جاء في آخر سورة الإسراء (وقرآنا فرقناه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) ولم يتنزل دفعة واحدة، فهو ليس كتاب نظري، بل كما وصف الصحابي الجليل ذلك بدقة أنه كانت إذا تنزلت عليهم عشر آيات محكمات تأملوها وحفظوها وفهموها وعملوا فيها، أي أن الكتاب الذي يغير هو الكتاب الذي نزل في واقع ميداني.

ـ والثالث أن النموذج أي النبي صلى الله عليه وسلم في الميدان يمثل فقرات الكتاب في فقرات من حلول اجتماعية، فلم يكن يضع يده المصطفى ص في مسألة أو يواجه تحديا إلا ونجح، والجماهير تعبد الشخصيات الناجحة، فكيف مع رجل يعيش بين أظهرهم، كما قال تابعي أنهم كانوا سيحملونه على الأكتاف طوال الوقت؟ فيجيب الصحابي من واقعة؛ أنهم كانوا في معركة الخندق في برد وجوع وخوف والرسول ص يقول من يذهب إلى القوم ويأتي بخبرهم أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة فلا يتحرك أحد حتى يأمر صحابيا فيغطس بينهم ويسمع قولهم وينقل خبرهم ووضعهم ولم يكن بأفضل من وضع المسلمين المحاصرين بكثير..

بل إن الوردي يفاجئنا بفكرة محيرة تجعلنا نراجع مسلماتنا ماذا كنا سنتصرف لو عاصرنا النبي ص مثلا في حادثة ضربه في الطائف؟؟ نزلنا عبر الزمن بدون أن نعرفه ثم نفاجأ بالمنظر هل كنا سننصره أم نشترك مع الضاربين؟؟ إنه سؤال مزعج ولكن لابد من طرحه.