فجع الوطن بإحدى حلقات الإرهاب في (سيهات)، في خطوة تهدف إلى شق النسيج الاجتماعي عبر استهداف أحد مكونات الوطن المذهبية. صحيح أن ما جرى لا يمكن رده ببساطة كنتيجة مباشرة لحالة الاستقطاب الطائفي التي تمر بها المنطقة ككل، ولكن لا يمكن أيضا تصور حدوثه بمعزل عنها.
علينا أن نعترف بأن آثار هذا الاستقطاب الإقليمي قد مسنا بشكل من الأشكال، وهو ما يقتضي أن نكون أكثر جدية في التصدي له في هذه المرحلة بنزع كل فتيل من الممكن أن يشتعل مع أدنى تفاعل سياسي تمر به المنطقة. لذلك من المهم البحث في جذور هذا النوع من الاستقطاب وفهم الطبيعة التي يجري عليها في المجتمعات. يحدث الاستقطاب عادة نتيجة لتضخم الشعور بنوع من تمايز الهوية يفصل فئة عن أخرى، بحيث يقتضي التمايز سلوكاً مختلفاً عند التعامل مع الفئة المغايرة، تحت ضغط خصومة مستحكمة تكمن أحيانا وتصعد إلى السطح في أحيان أخرى. ولا عجب في أن ذلك الشعور لا يخضع لمحددات منطقية في العادة، ولعل أوضح دليل على ذلك هو أن التمايز بين مذهبين ينحدران من الدين نفسه قد يجر إلى استقطاب أعنف من التمايز بين دينين مختلفين في كثيرٍ من الأحيان. ذلك أن التفاعل المجتمعي هو ما يقود إلى ذلك النوع من الاستقطاب وليس الحدود النظرية للهويات في العادة.
عرف تاريخنا الإسلامي أشكالاً أعجب من الاستقطاب المذهبي، ليس على صعيد التمايز السني الشيعي فحسب، بل على صعيد المذاهب داخل الإطار السني نفسه. من ذلك على سبيل المثال ما أخبر به ابن كثير من وقوع الفتنة بين الحنابلة والأشاعرة، فقد أورد في أحداث أربعين وأربع مئة: "وفيها وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة، بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات"! ومنه ما حدث من استقطاب بين الحنابلة وأتباع المذهب الحنفي حتى تصاعدت لغة التكفير بينهم في مؤلفاتهم إلى أن قال بعض الحنابلة: "إن استقضاء الحنفية على بلد أشد على الأمة من ظهور الدجال"! وقد شهدت بعض الفترات استقطابا داميا بين الأحناف والشافعية، خصوصا في أصفهان التي يذكر ابن أبي الحديد أنه انتهى بنتيجة مأساوية، فقد كان الصراع بين الفريقين عنيفاً رغم التهديد المغولي المحدق بهما، بل إن الأقلية الشافعية اختارت اللجوء إلى تدخل المغول لإنقاذهم من بطش الأحناف، ولكن دخول المغول إلى البلدة تسبب في عاقبة شنيعة لعموم المسلمين من سكانها. وليس مستغرباً في ظل تلك الظروف أن كثرت الفتاوى بعدم مشروعية التزاوج بين أفراد مذهبين سنيين أو جواز الصلاة خلف إمام من مذهب مغاير!
عند التمعن في هذه الأمثلة وأشباهها مما تعج به كتب المؤرخين، نرى أن الأمر المشترك بينها في العادة هو أن ذلك النوع من الاستقطاب غالبا ما يحدث في ظل أوضاع مضطربة تمر بها الأمة بشكل عام، كتعرضها لهجمة أجنبية أو انطوائها على ظروف طاحنة من الاستبداد السياسي، حيث يتراجع صوت العقل في بيئات كتلك ويصعد فيها صوت الغرائز البدائية، ولا عجب حينها أن أي سؤال عن منطقية التمايز حينها سيعتبره الكثير من الغوغائيين نوعاً من الترف والتخاذل. أما الإشكال الأكبر المتعلق بهذه القضية فهو أن المنحنى التصاعدي للسلوك الطائفي والعنصري يصعب كسره مع كل تصاعد حتى يصل إلى نقطة اللاعودة، حتى إن غير المقتنع بضرورة هذا الصراع يجد نفسه مضطراً إلى الاحتماء بطائفته وقبول كل حماقاتها لعدم تحمله مخاطر الانكشاف لهجوم الطائفتين معاً، فما تحمله ذاكرتنا القريبة لأحداث العنف الطائفي في بلدان الجوار بيان لهذا.
لعل أول ما يمكن فعله للحيلولة دون خطر تأثر مجتمعنا بالاستقطاب الإقليمي هو عدم الانجرار لاستعمال اللغة التصنيفية الثنائية، فللغة عنفها أيضاً من خلال ما تسترجعه من وقائع الماضي أو تستولده من توجسات المستقبل. يبدأ الناس عادة بالشعور بأنهم مختلفون من حيث يشعرهم الآخرون بذلك. ففي رواندا لم يعرف الهوتو أنهم (هوتو) والتوتسي أنهم (توتسي) إلا بعد أن حملوا بذلك معرفات تميز بينهم في بطاقات للهوية استعملها المستعمر ليميز بين فئتين من إثنية واحدة لها نفس اللغة ونفس الدين تقريباً. لقد وزعت تلك المعرفات في البداية بحسب ما تمتلكه الأسرة من أبقار، فكان مالكو الأبقار هم التوتسي والمزارعون ممن لا يملكونها هم الهوتو. دلل المستعمر التوتسي على حساب الهوتو، ثم انقلب الهوتو على التوتسي فهمشوهم حتى ثار التوتسي مرة أخرى فوقعت حرب الإبادة الشهيرة التي من الممكن إرجاع جذورها إلى تمايز وهمي بالهوية.
ولكن من يهتم بمنطقية التمايز إذا انطلقت الغرائز العدائية وفرخت اللغة ما تحتاجه من تحريضٍ خطابي. وإلا فما هو المنطقي في أن يهاجم سني شيعياً في بقعة من العالم لأن هناك شيعياً آخر يضطهد سنياً في بقعة أخرى؟ وكيف يصدق البعض أن الدين يصبح مبرراً لذلك؟ فالدين في حقيقته لا يقوم من حيث أصله على (بيننا وبينهم)، بل يقوم على (بيني وبين الله).