الضيافة بطبيعتها علاقة قصيرة العمر. نسمع كثيرا عن أن الضيافة ثلاثة أيام أو ما شابه ذلك. الضيافة كما قلنا مرتبطة بالحاجات والمحتاجين. الضيافة ترحيب بالغريب والضعيف وعابر السبيل. مع الضيافة يبدأ الغريب في التحوّل إلى قريب، نبدأ بالتعرف عليه وفهمه ومع الوقت يصبح جزءا من مشهدنا المعتاد، بهذا المعنى لم يعد يتوافر فيه شرط الغرابة الجوهري للضيافة. حين أعود من أميركا لزيارة أهلي في السعودية يقيم لي أهلي استقبالا كريما وحنونا، ولكنهم لا يعتبرونني ضيفا. حين يعزمون الجيران يكررون هذه العبارة "ما عندنا ضيوف.. عبدالله جاينا من أميركا". اعتباري ضيفا يعني الاعتراف بغرابتي، وهذا وإن كان حقيقيا بفعل السفر والغربة إلا أن حميمية الأسرة ترفض الاعتراف به. يحكى أن دارا مخصصة للضيوف عند مدخل إحدى المدن الأوروبية في القرون الوسطى يخصص فيها للضيف عابر السبيل ثلاثة أيام، كل يوم في قسم خاص من الدار، في القسم الأول المخصص لليوم الأول كتب على الجدار مرحبا بك، في القسم الثاني كتب استمتع بإقامتك، في القسم الثالث المخصص لليوم الثالث كتب استعد للرحيل. الضيافة بهذا المعنى هي عملية تحويل للضعيف إلى قوي والغريب إلى قريب. عملية التحويل هذه نتيجة للضيافة وليست غاية لها. بمعنى أن الضيافة استجابة لظرف إنساني معين وتنتهي بانتهائه. استعد للرحيل هنا تساوي كن مضيافا وافتح الباب لضيف جديد في مكانك. نهاية الضيافة لا تعني بالضرورة نهاية آثارها. بمعنى أن الضيافة تؤسس علاقة قوية جدا بين طرفين ربما لم تكن بينهم أي معرفة في السابق. هذه العلاقة أسست بينهم التزاما أخلاقيا هائلا (تحدثنا عنه في مقالة الأسبوع الماضي)، لكن هذه العلاقة -علاقة الضيافة- تنتهي لتؤسس معها علاقة إنسانية أخرى ربما تكون صداقة وربما مجرد ذكرى خالدة عن إنسان ما في مكان ما أكرمني في يوم من الأيام.

في ذهني الآن صورة تشبه صورة غرفة العمليات التي يخرج منها مولود جديد للدنيا. الضيافة تشبه غرفة العمليات التي كل ما فيها مركز ومكثّف. هناك طرف يحتاج للمساعدة ويحظى في هذه الغرفة بحقوق استثنائية ورعاية فائقة، لكنه يجب أن يخرج من هذا المكان. الأمل أن يخرج من هذا المكان وهو بصحة أفضل أو وهي بصحبة طفلها الجديد. العلاقة داخل غرفة العمليات يجب أن تنتهي في وقت محدود ولكن الأمل أن تنتج أثرا حميدا طويل المدى. الضيافة بمعنى مقارب استجابة لحالة طارئة: غريب بلا سكن، أو ضعيف بلا مأوى، أو معتدى عليه يبحث عن الأمان والرحمة. الضيافة هنا علاقة ولّادة إن تمت بطريقة سليمة، فإن أثرها يجب أن يستمر لوقت طويل. الأثر الأقوى للضيافة أن تخلق ضيافة جديدة، أن يقوم الضيف باستضافة الآخرين متى ما استطاع. الضيافة الحقيقية تولّد الضيافة، ولذا فهي بلا أهداف تتجاوز هذه الاستجابة للتراجيديا البشرية: الضعف والعنف والعداوة والاغتراب.

الكريم المضياف يبقي ضميره وبابه مفتوحا لضيف قد يأتي يوما من الأيام. الضيافة عنده ليست محدودة بزمن ولا تنتهي بنهاية أحد مشاهدها. الضيافة بهذا ليست محدودة بوقت. الكريم المضياف يتمنى ويعمل باستمرار على أن تبقى الضيافة حية بين ورثته بعد أن يموت. المضيافة لا تريد أن تموت الضيافة مع موتها. لكننا قلنا في البداية إن الضيافة علاقة قصيرة زمنيا فكيف نجمع بين كونها قصيرة العمر وخالدة في الوقت ذاته. ربما تساعدنا هذه الصورة على حل الإشكال. الضيافة كضيافة تسعى إلى استمرار ما دام هناك ألم وحاجة إنسانية، ما دام هناك عدوانية وطائفية وتعصب وطمع تحجب البشر عن بعضهم البعض. الضيافة هنا تعالٍ على كل هذا وارتقاء للانفتاح الإنساني المتجاوز لكل الاختلافات والصراعات. الضيافة بهذا المعنى لكل البشر وفي كل الأوقات. لكن الضيافة المخصصة لشخص بعينه ضيافة محدودة الزمن باعتبار أن هناك دائما من هو بحاجة أكبر للضيافة. الضيافة علاقة ذاتية موجهة للفرد مباشرة، ولكنها موجهة تحديدا إلى حاجته وضعفه. مع نهاية حاجة هذا الإنسان تنتهي حاجته للضيافة. من هنا يمكن أن نفهم ارتباط كلمتي الضيافة Hospitality بالمستشفى Hospital بالإنجليزية. الكلمتان تنتميان لجذر واحد لاتيني Hospes يحيل على الغريب والمسافر. الضيافة كما الاستطباب حالة مستمرة مع استمرار الحياة البشرية ولكن بالنسبة للأفراد الأعيان فإن الأمل أن تكون علاقتهم معها موقتة. هناك دائما من هو في الطريق يبحث عن مكان آمن يستضيفه. هناك من يبحث عن قلب وبيت مفتوح في عالم مليء بالقلوب والأبواب المغلقة. الطبيبة الرحومة والممرضة العطوفة تشبه صاحبة البيت التي تكرم ضيوفها وتقوم على رعايتهم. الضيافة والكرم يأخذان قيمتهما من حدة الحالة التي تستجيب لها. دعوة الأغنياء وأصحاب المناصب لمنزلك لن تعتبر كرما أو ضيافة. ستعتبر تواصلا وربما زيارة عمل وربما تبادل مصالح، ولكن فتح القلب والباب للضعيف والمحتاج وعابر السبيل هو ما يدخل مباشرة في لب الضيافة. الضيافة كما العلاج مخصصة للحاجة الإنسانية. المكان المخصص فيها للأقوياء والمتعافين هو مكان المساعدة والعمل على خدمة الآخرين لا العكس. لذا فالضيافة تتحرك تماما في الاتجاه المعاكس لأخلاق الأنانية. الأناني مشغول بذاته والضيافة انشغال بالآخر. الضيافة حدث زماني واستجابة لشرط الزمان. الضيافة ككثير من الأشياء الجميلة تريد مقاومة الزمن وتبحث عن الخلود ولكنها تحدث في الزمن الواقعي وتريد تقسيمه بين الضيوف.