من بين أغرب المكالمات التي تلقيتها في أعقاب مقالي عن "وقاحة راكب التاكسي" هو ذلك الاتصال الذي يحاول فيه صاحبي أن يقنعني أن من أبسط حقوق راكب التاكسي أن يستقل سيارة لا تحوي إشارة دينية، وطالما أنه دفع ثمن المشوار فالسيارة ملك له خلال تلك الفترة. هذه هرطقة أفراد وجماعات يعيشون خارج وقائع الزمن، أشهر "ماركتي" سيارات في عالم اليوم، وأكثرها مبيعا وانتشارا في شوارعنا السعودية تحملان إشارة "الصليب" على الوجه والخلف. ثم هب أننا نزعنا هاتين العلامتين بمجرد فك "الغراء" أو حل بضعة مسامير كانت تثبت الصليب على الواجهتين، فماذا نفعل بمئات القطع في جوف كل سيارة نقودها وكل قطعة منها تحمل دمغة "الماركة" بالبروز أو النحت؟ وعلى منطق هؤلاء فلا مجال أمامنا للتنقل في شوارعنا سوى البغال والحمير، وبالمناسبة، لا زلت أتذكر هرطقة ذلك الذي لم ير في تصميم مطار الملك عبدالعزيز سوى "عضو امرأة" لأن البرج يرتفع في مداخل انقسام الصالتين، ثم جاهد ليبرهن أن التصميم يشير لرمز ديني لآلهة إغريقية ماتت منذ عشرة آلاف سنة. كيف يريد لنا مثل هذا أن نبني مطارا من دون برج مراقبة وصالتين كي نتجنب خيالاته عن "عضو المرأة" والإشارة الدينية إلا ببناء البرج في "ثول" والصالتين ما بين الليث وعسفان، حتى الطائرة نفسها وتحت ضرورة التصميم لديناميكية الهواء تحمل إشارة "الصليب" المائل الذراعين، فهل نحاسب الطيار على هذا الشكل على طريقة وقاحة راكب التاكسي؟
سأختم بقصة حقيقية من هرطقة هؤلاء وخيالاتهم المريضة: كنت في الثانوية العامة عندما أنهى أهلي من سكان قريتي بناء أول مسجد حديث أسمنتي. زارنا فيه من نظر إلى سقفه وأطال فيه التأمل ثم خرج بنظرية الإشارة الدينية، ليقول إن "الكمرات" الساقطة في سقف المسجد تتقاطع فوق رؤوس المصلين على شكل صليب، لم يكن بقريتي يومها مهندس إنشائي واحد ليقول لنا إنه التصميم الوحيد على وجه الأرض لرفع سقف مفتوح من مئتي متر مربع ولا علاقة له بصليب أو ثالوث أو أي شيء من أوهام الإشارات الدينية. والخلاصة أننا اليوم نعيش في بلد مفتوح على كل هذا العالم الفسيح، وتسكن معنا كل جنسياته وأديانه ومذاهبه وملله ونحله، وكل هؤلاء يأتون بإشاراتهم الدينية مخفية كانت أم واضحة، في شكل الشعر أو رسمة "التاتو" أو حتى في إسوارة معصم ما بين الركبة والقدم، نعيش في بيوتنا بين مئات القطع والأجهزة المنزلية التي نستوردها من كل قارات الكون، وبكل تأكيد بينها ماركات آلاف الشركات التي تحمل إشارة دينية. والخيار المتاح: إما أن نعيش في العصور الوسطى وإما أن نكون عالة على المنتج الذي نقبل عليه بشراهة ونحارب رسمته.