من الخطورة بمكان أن تختلط علينا الأمور إلى الحد الذي يصعب علينا فيه اختيار الوقت المناسب لممارسة ترفنا الفكري وإطلاق آرائنا هنا وهناك من دون مراعاة للمخاطر الوجودية التي تعرضنا لها مثل هذه الآراء غير المرشدة. فما أشبه هذه الحالة بما يمارسه كثيرون منا -مع الأسف- من ضرب عرض الحائط بقواعد السلامة وهم يصرون -مثلا- على تشغيل أجهزة هواتفهم في الطائرة في وقت تتصاعد فيه نداءات قمرة القيادة وطاقم الضيافة بإغلاق الهواتف حتى لا تشوش على الأجهزة الملاحية للطائرة، أو أن تجد أحدهم أثناء حركة الطائرة في الممر بعد هبوطها يسرع بالقفز من مقعده ليسبق الجميع إلى باب الخروج، ضاربا عرض الحائط أيضا بمناشدات القمرة وطاقم الضيافة.
لم يكن ما سبق أن ضربته سوى نماذج لممارسات نشاهدها جميعا وأيضا ننتقدها ونرفضها، تجسد حالة من عدم المبالاة بالخطر، أي خطر، حتى خطر وجود عدو قريب على حدودك، يتربص بإخوتك رجال القوات العسكرية الدوائر، فيسقط منا جرحى وشهداء، وما يزال بعضنا مصرا على إطلاق انتقاداته هنا وهناك على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الاستراحات التي نتحول فيها جميعا كل مساء إلى زعماء ومحللين سياسيين وقادة عسكريين، في وقت لا يفكر فيه إخوتنا على الجبهات إلا في الالتزام بأوامر قادتهم حتى النصر أو الشهادة، فلا يقولون إلا سمعا وطاعة.
لا أعني من قريب أو بعيد بحديثي هذا أن أدعو إلى تكميم الأفواه، فقط أتطلع، مثلما يتطلع كثيرون، إلى ترشيد هذه الأفواه التي لا أعرف كيف لا يدرك أصحابها أننا في حالة حرب، وفي حالة الحرب يفترض أن نكون جميعا جنودا في الجبهة الداخلية، نلتزم توجيهات قادتنا، تماما مثلما يلتزم إخوتنا في الجبهة الخارجية، بأوامر قادتهم حتى الموت على الحدود من أجل أن نتقلب نحن في فرشنا طوال الليل آمنين على أهلنا وأموالنا وسيادة أوطاننا.
إن إطلاق الآراء جزافا قد يجعل من أحدنا خائنا لوطنه؛ خيانة تنتقص من مروءته وإنسانيته، لأنه استمرأ موت أخ له على الحدود في حين جلس هو يطلق نظرياته السياسية والعسكرية في الاستراحات، والمجالس، وعلى مواقع التواصل، وهو أمر بالغ الخطورة في وقت الحرب، ففي الوقت الذي يتحول فيه تكاتف الجميع في الداخل ووقوفهم خلف إخوتهم المقاتلين والتفافهم حولهم إلى وقود حيوي يشعل عزمهم ويجعل من تكبيراتهم دانات تسقط في قلوب أعدائهم الرعب، تتحول كل كلمة انتقاد غير مسؤولة إلى دانة تقع في قلب أحد مقاتلينا، فتهز عزيمته.
إن جميع الأدبيات العسكرية تتحدث باحتفاء بالغ عن أهمية العقيدة القتالية لدى المقاتلين، ودور الجبهة الداخلية وقت الحرب؛ دعم هذه العقيدة وتعزيزها، وهذا يعني باختصار أن كل من يسهم برأي أو تصريح غير مسؤول هنا أو هناك هو في حقيقة الأمر شريك متضامن مع أعداء بلاده من حيث لا يدري، فإن كان يدري، فالمصيبة أعظم.
ما أود أن أختم به حديثي هذا أننا جميعا في هذا الظرف بالغ الحساسية، لم نعد نملك ترف الانتقاد أو الاختلاف في وجهات النظر، فإن اختلفنا، فليكن لذلك سقف لا نتجاوزه جميعا، هذا السقف هو مصلحة بلادنا العليا، التي تتمثل في طاعة أوامر قادتها في الجبهتين الخارجية والداخلية، لأن عدونا جميعا لا يستهدف جنودنا وحدهم، بل يستهدفنا معا، نحن وهم، أيضا جنودنا لا يقاتلون من أجل وجودهم وحدهم، بل من أجل وجودنا معا، نحن وهم، فمن يعرف اليوم ما نواجهه من تهديدات ويصر على مواصلة ترفه الفكري فهو خائن لبلاده عمدا، ومن لا يعرف فليتوقف.