إن المتابع لآخر ما قاله الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح يدرك تماماً أنه مستثمر حقيقي للتناقضات اليمنية بين عبد ربه هادي ومن وراءه من توافقات، خلقتها الضرورة المؤقتة وليست الدائمة، هذا من جهة، وبين الحوثيين ومن وراءهم من توافقات خلقتها الضرورة المؤقتة أيضاً وليست الدائمة من جهة أخرى، وأنه ما زال يحاول الرقص على رؤوس الثعابين اليمنية متكئاً على لعبة التوافقات المؤقتة والهشة عند كل الأطراف، بما فيها توافقاته الخاصة التي يتكئ عليها بمهارة تجعله يقف دون أن تنكسر هذه العصا الهشة، فهناك اصطفاف يمني أساسه الوعي التقليدي الفطري في النظر لقوات التحالف، فطائرات التحالف لإنقاذ اليمن عندما تقصف المواقع المحددة عسكرياً فإنها بسبب الخطاب التعبوي للحوثيين تعيد لذاكرة اليمنيين البسطاء قصف بغداد من قبل أميركا، وقد عمل علي صالح والحوثيون بهذا الاتجاه منذ بداية عاصفة الحزم.
بعد استسلام الرئيس علي صالح لعاصفة الربيع العربي التي وصلت إلى صنعاء وتنازله القسري للرئيس عبدربه هادي واستقرار الأوضاع نسبياً، سافرت إلى صنعاء لمدة أسبوع، قضيتها بين مجموعة من شبيبة الأحزاب اليمنية (الإنتلجنسيا)، كنت أستمع لهم على اختلاف انتماءاتهم الحزبية والقبلية بحياد تام، كان الحلم اليمني بدواخلهم عالياً جداً، كانت طموحاتهم عالية في يمن ديموقراطي، يعيش طموحات التنمية والازدهار، وقد تعاملت كل القوى في المنطقة وفق أجندتها الخاصة لاحتواء الواقع الجديد في اليمن، فقد كتبت سابقاً مقالاً بعنوان (الترهل السياسي في واقع يركض) قلت فيه: (حكى لي بعض الأصدقاء أن إيران استقطبت مجموعة من شبيبة النخبة المثقفة من كل الأطياف المشاركة في الثورة اليمنية ضد الرئيس المخلوع، وذلك لحضور مؤتمر شبابي في طهران لثوار الربيع العربي من "مختلف أرجاء الوطن العربي"! وقيل لي أيضا إن تركيا آنذاك استضافت أيضاً اجتماعات شبابية من هذا النوع، لا أعلم عن صحة هذا "القيل والقال" ولكني أفترض في سفاراتنا العلم الأكيد والتفصيلي عن مثل هذه الحكايا).
لا يمكن الحديث عن الحليب المسكوب في التغافل عن التغيرات الديموغرافية في العالم العربي ومن ضمنه اليمن نحو (شريحة الشباب الكبيرة)، وفق معطيات بدأت منذ اغتيال الشهيد جارالله عمر الذي شخص كل إشكالات اليمن في كلمته التاريخية التي جرى اغتياله بعد إلقائه لها مباشرة، والتي حاولت جمع الوجدان اليمني دون عنف نحو مرحلة ديموقراطية خالصة، وكان اغتياله دليل عجز في إدارة الصراع البيني دون اغتيالات وقد بدأت تظهر ملفاتها للعراء أكثر وأكثر منذ وفاة الزعيم القبلي السياسي عبدالله بن حسين الأحمر، وصولاً إلى احتراق علي صالح.
كان الشباب اليمني متحمساً للتغيير، كانوا يعرضون عليَّ بحماس بياناتهم الثورية التي قاموا بتوزيعها بين الشبيبة الحزبية، وكيف تدفقت الشوارع بالشباب، كان واضحاً أن اليمن الذي عرفته منذ 15 عاماً لم يعد اليمن القديم، يريد اليمن الجديد المكتنز بالشباب أن يكون موجوداً وفق معطيات العروبة وحقوق الجوار التي تنظر إليه، أكثر من مجرد مصدر للعمالة الرخيصة، كان الوجدان الشعبي الشبابي متحفزاً لأكثر من العمل في الخليج، يريد دولة وجمهورية بلا زعيم خالد يتم فداؤه بالدم والروح، تفاجأت برفاق كانوا أصدقاء في هامش العمل السياسي، وقد أصبحوا في متن البنية السياسية الحكومية، كثير من المعارضة أصبح حكومة، وكما قلت سابقاً فإن أثافي الديموقراطية في اليمن تتكئ على معطيات ثلاثة (الحكومة، القبيلة، الحزب) وإغفال ركن من هذه الأركان لن يصنع طريقاً للاستقرار في اليمن، فالحكومة تحكم والقبيلة تحكم والحزب يحكم، وفق معطيات تشبه فصل السلطات في نظرية مونتسكيو، فالتدافع بين هذه الأثافي هو الذي حمى اليمن حتى هذه اللحظة من حمام الدم السوري البشع.
بقي تعليق بسيط على كلمة الرئيس علي صالح الأخيرة، التي أعادت لذاكرتي حكاية كبار السن عن طائر يسمونه (ملهي الرعيان)، حيث يعمد هذا الطائر إلى تصنع العجز عن الطيران ليتوهم الراعي أنه فريسة يمكن اصطيادها، فيهرب من مكان إلى آخر، ويستمر الراعي في مطاردته مما يجعله ينسى غنمه، وهذا الطائر يعتمد هذا السلوك كي يحمي فروخه الصغار، فيأخذ الراعي بعيداً عنها، ويغفل الراعي ليصبح أيضاً بعيداً عن غنمه، ولهذا علينا أن لا ننظر للواقع اليمني بطريقة شخصية غير موضوعية، مع الاستفادة من أخطاء الآخرين، فليس مطلوباً منا تكرار أخطاء أحد، يعنينا فقط وجود استراتيجية لسياسة خارجية ثابتة نعمل وفقها.
المملكة العربية السعودية دولة مؤسسات عريقة يرأسها جلالة الملك، وليست دولة أفراد، وتاريخنا ينبئ عن سياسة حكيمة تجاوزت ما هو أعتى من هذا منذ مغامرات عبدالناصر في قصف الحد الجنوبي، مروراً بمغامرة صدام في الحد الشمالي واحتلال الكويت، وكيف استضفنا شعبا وساعدناه لتنتهي حقبة من الحصاد الصعب التي تجاوزناها بعزم القيادة وتكاتف الشعب، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه.