إذا لم يتم حسم الصراع اليمني وفق مسار يعيد للدولة هيبتها وينهي دور الميليشيا ويتم بناء دولة اليمن الاتحادية؛ فإن الحوثية ستستمر في إنتاج الفوضى المستمرة بعد أن أصبحت منظومة معقدة اخترقت مربعات السلطة وتنظيم بعض القوى المؤثرة في بنيتها التنظيمية، وستستمر في اللعب على التناقضات اليمنية وتفجيرها بما في ذلك اللعب ببنية التناقضات في تركيبتها لتغطية الاختراق الواسع لمصادر إنتاج القوة في الدولة والمجتمع، فالميليشيات ليست إلا ذراعها التي تنمو حول مرتكزات عسكرية بعضها يتحرك خارج المؤسسة الأمنية والعسكرية وبعضها في قلب المؤسسة.

والبنية العسكرية للتنظيم الحوثي التي كونتها (صعدة) محترفة ومدربة، وهي في الغالب غير مرئية وغير مكشوفة وتتكون من تضامنات عائلية على مستوى القيادة الميدانية تنتهي بمركز مهيمن تحكمه العائلة الحوثية ومن يواليها بإخلاص من الفئة الهاشمية وأبناء القبائل المنخرطين في الأيديولوجية الحوثية، وتم بناء روابط بين الحلقات الهاشمية التي شكلت دولة الأئمة تاريخيا مع النخب القبلية من أبناء المشايخ أو أسرهم من الصف الثاني، وتشكيل حلقات تابعة لهم من المقاتلين والأنصار، وتوسيع هذه الروابط عبر الجغرافيا اليمنية.

عملت الحوثية، مستفيدة من تجربة وكلاء إيران كحزب الله اللبناني، على تدعيم وتطوير فعلها الميداني في كافة المستويات العسكرية والإعلامية والسياسية والاجتماعية، مضاف إليها الاستفادة من تجربة حكم الأئمة وتجربة التكوينات التي تحالفت معها في العهد الجمهوري وتعمل على توسيع المركز المهيمن الذي شكلته فترة حكم الرئيس السابق صالح، والذي تتم إعادة بنائه وتركيز قوته لصالح الحركة الحوثية، وفي الوقت نفسه توسيع حلقاته في الجغرافيا اليمنية عبر العصبية الهاشمية والقوى الأخرى التي ارتبطت بالريع الإيراني.

حددت الحوثية بشكلها الجديد الذي ظهر في 2011 هدفها من البداية بالتخلص من بعض مرتكزات الحلف التقليدي الذي شكلته فترة النظام السابق، وبالذات الأجنحة العسكرية والقبلية التي كانت لها علاقات مع حركة الإخوان والعمل على مدّ شبكات مصالح مع الحلفاء الذين لعبوا دورا في إسناد النظام شريطة العمل وفق مقتضيات الهيمنة الجديدة التي تم تركيز قوتها في (صعدة)، وإسناد السيطرة من خلال تحالفات مع القوى التي عارضت نظام صالح واحتوائها، وكانوا من البداية على قناعة أن الهيمنة الحوثية لن تكتمل إلا بعد انهيار الطرف الأقوى والمنافس الفعلي في منظومة النظام السابق واستتباع حلفائه الأضعف وتشكيل تحالفات مع القوى التي عارضته والعمل على رهن استمرار مصالحهم من خلال العمل على تقوية بنية التنظيم الحوثي، وتوظيف القوة التي تمتلكها تلك الأطراف لتجذير الحوثية في عروقها المتشابكة!!

ولتحقيق الطموحات الحوثية عملت منظوماتها المعلنة والسرية على تفجير التناقضات في بنية القبيلة والمؤسسات وبين المناطق، وفي المؤتمر الشعبي العام وفي جسد مراكز القوى ومصالحها، مع تفجير صراعات بين الكتل الجغرافية وفي أوساط العصبيات التي بإمكانها أن تنافس أو تقاوم العصبية الحوثية التي تتم إعادة بنائها ككتل متنوعة عمودها الفقري "مركزية صعدة" بحمولاته المذهبية والتاريخية، وهذه المركزية مهمة وما زالت مقبولة من الامتداد المشابه لها من القوى المدنية في المدن والباحثة عن هوية لعصبية ممتدة عبر الجغرافيا اليمنية، وبالذات في الجغرافيا الزيدية.

وقد ركزت مختلف القوى التي راهنت على الحوثية على بناء العصبية الجديدة بحيث تكون لحمتها "الأيديولوجية الحوثية"، وهي تحول وانتقال في بنية الزيدية لصالح إسلام سياسي يحاول بناء تشيع سياسي عبر الجغرافيا اليمنية بهدف تأسيس ولاء يمكّن العصبية في الجغرافيا الزيدية من شرعنة سيطرتها التي يتم حبكها وفق تقنيات احترافية مستفيدة من التجربة الخمينية، فهي السند الذي يمنحها طاقات من خلال التخطيط بالخبرة المحلية بعد أن تتم تعبئتها في اتجاهات الطموحات الإيرانية!

من الواضح أن تفجير التناقضات التي تم اتباعها بهدف هدم القوى المنافسة ما زال قائما حتى اللحظة في كل الاتجاهات مدعوما بخلق الأعداء في الداخل والخارج لتفكيك كل المجتمع وقواه ومغالبة كل ما يمكنه أن يكون قوة مهددة لهيمنتهم، والتي ما زالت حتى اللحظة سطحية وطارئة ومكشوفة ولا يمكن الاستناد على لحظة الانهيار الحالية لأنها كشفت وجه الحوثية وما زالت القوى المختلفة قادرة على تغيير اتجاهات الصراع لمحاصرة تركيبتها، كما أن القوى التي التحقت بالحوثية والطامحة من العائلات وشبكات المصالح التي هزتها التحولات وهددت بقاءها، قد تنقلب على الحوثية في حالة وجود ضمانات تمكنها من الاستمرار، لأنها تدرك أن القوة الحوثية تعتمد عليها، ولديها شكوك في أن الحوثية قد تحولها إلى قرابين لتحقيق نصر حاسم لصالحها.

مع التدخل العربي الداعم للشرعية حدثت انقلابات جذرية ومواجهات حاسمة وصارمة، وهذا قد يحول الحوثية وطموحاتها المتهورة إلى ضحية للعبة الصراع الذي لا تتحكم به قوى داخلية وخارجية ترى في الحوثية تهديدا وجوديا لليمن وللأمن القومي العربي، إلا أن الحوثية تعمل على توسيع الصراع واستمرار عملية الهدم وإعادة بناء الذهنيات باتجاه التشيع السياسي وكراهية العرب.

تمثل المقاومة الشعبية عامل الصدّ الأكثر صرامة في تدمير مخططات الحوثية، وهي ما زالت تعمل في حدودها الدنيا وسيتسع نطاقها مع الوقت، وما يسهل إضعاف الحوثية ومحاصرتها وقمع مشروعها الفاشي، أن الشبكات الحوثية ما زالت مائعة في بناء لحمة قوية، ولا تحمل مشروعا وطنيا، وتبدو اليوم كقوة متنفذة لا حامي لها إلا استمرار الانهيار وتفكيك القوى الوطنية من خلال تفجير التناقضات، وهذا الأمر في ظل التدخل العربي لم يعد مضمونا لأن استمرار المغامرة الحوثية في مشروعها قد يقود إلى فشل مستدام ينهي الدولة ويفكك الجغرافيا، وهذا ما يتنافى مع مصالح مختلف القوى اليمنية ويتعارض مع استراتيجية التحالف العربي.

وقد ركزت الحوثية على ابتداء ثلاثة محاور أساسية لفرض هيبتها على بقية الأطراف حتى تلك التي لا ارتباط لها بالمحاور الثلاثة: زعماء حاشد من آل الأحمر، الإخوان وبالذات تيار الزنداني، وكتلة الجنرال علي محسن وشبكة تحالفاته، وعملت على ضرب الرؤوس الكبيرة باعتبار ذلك المدخل لتفكيك كل ما يمكنه أن يلملم أي مقاومة وإرهاب الباقي، ومع ضرب هذه الرمزيات الثلاث تولدت تناقضات وصراعات بين التيارات التي اعتمدت عليها، وتشتت المصالح التي ارتبطت بها وعمقت الشرخ والصراع في التحالف الذي شكلته الساحات وبلغت تناقضات الاحتجاجات حدها الأعلى، ولم يعد التنظير الثوري الذي أسست له انتفاضة 2011 إلا استمرارا للانهيار وإسنادا للتمرد الحوثي حتى تلك التنظيرات التي تعمل ضد الأفعال الحوثية.