الشفافية إحدى أهم معايير الحوكمة، وهي من أهم دلائل توفّر العدالة والنزاهة من عدمها في أي جهاز، وتعتبر العدو الأول للفساد والفاسدين؛ إذ من خلال الشفافية يمكن رقابة ومتابعة العمل بدقة، ما يعزز الرقابة والمحاسبة داخل الأجهزة ويضمن حقوق المستفيدين.

سبق أن كتبت مقالا بعنوان "حوكمة القضاء"، وهو عنوان كبير يتضمن تحته عدة معايير عامة عن الحوكمة، ولكن أود تسليط الضوء أكثر على أحد أهم تلك المعايير، وهو الشفافية والوضوح.

هذا المعيار كبير ويدخل في جوانب متعددة، وسأحاول نقاش أهم تلك الجوانب، حيث إن الشفافية يدخل تحتها الإفصاح والوضوح اللذان يعتبران رقابة بحد ذاتهما على أي جهاز خصوصا القضاء.

كثيرا ما يحصل أن يتابع أحد المتخاصمين مجريات القضية داخل المكتب القضائي، وبالتالي تحصل هناك اتهامات أو تجاوزات بأن يتدخل أحد الخصوم في مسار القضية، فقد يحصل على بعض البيانات دون علم الآخر، أو ربما يسهم في حجبها أو تجاهلها من خلال بعض العاملين داخل المكتب القضائي مثلا، كذلك يحصل أن يتدخل أحد الخصوم في اختيار المواعيد دون علم الآخر وهكذا، ولكن عندما تعزز الشفافية بتسجيل كل مراجعة لأحد الخصوم وما الذي طلب أو اطلع عليه دون الآخر وكشفها للخصم الآخر ليكون مطلعا على كل ما قد يؤثر على مسار الدعوى، كذلك في حال طلب أحد الخصوم مقابلة القاضي وتقديم أي طلب أو شرح أي تطور للدعوى؛ فإن الطرف الثاني يجب أن تكشف له تلك الزيارة ويمكّن من الاطلاع على كل شيء، وقد يُهيأ ذلك إلكترونيا لكل الأطراف (مع أن الأصل في مقابلة القاضي أن تكون بحضور الخصم).

فتح ملف الدعوى وإدخال أي شيء جديد يجب أن يكون مرصودا إلكترونيا ما الجديد الذي طرأ، ومَن الذي أدخل ذلك الإجراء الجديد، وبأمر مَن وهكذا، مما يساعد على مزيد من ضمان العدالة والمساواة بين المترافعين من خلال هذه الشفافية.

هذه المساواة بين المترافعين من خلال الشفافية مبنية على المادة 47 من النظام الأساسي للحكم؛ التي تنص على المساواة بين المتخاصمين. والخلاصة في هذا الجانب أن الشفافية في كل إجراءات ومسار الدعاوى القضائية تُعزز العدالة والمساواة بين المتداعين أمام القضاء.

الشفافية تمنع الفساد وتحارب المفسدين، فعندما يتم كشف كل إجراء داخل إجراءات المكتب القضائي؛ فإن الشخص الذي أسهم في عملية الفساد يعلم أنه قد ينكشف بسبب وجود رصد دقيق ومكشوف لكل الأطراف بأنه هو من قام بإدخال أو إخفاء أو تغيير أي شيء في القضية. بالتالي؛ فإن الشفافية تضمن الحد الأدنى من الرقابة الذاتية داخل المكتب القضائي. وهذا يستوجب أن يكون هناك ضبط دقيق لكل عملية تدخّل في إدراج أو حذف أو تعديل أي شيء في ملف القضية إلكترونيا، كما يستوجب تحديث لوائح عمل المكتب القضائي وتعزيز الشفافية فيها، بالإضافة إلى لائحة عقوبات صارمة في حال تجاوز تلك الضوابط حتى لو لم يشتمل الإخلال بها على ضرر، لأجل الحفاظ على الشفافية والحوكمة العالية داخل الجهاز.

الشفافية تمنع محاباة الموظفين لأحد المتداعيين، فعندما يحابي أحد العاملين في المكتب القضائي ويعامل أحد المتداعيين بشكل قد لا يرضاه الطرف الآخر؛ فإن أول طريق نحو منع مثل هذه المحاباة هو الشفافية التي تكشف تلك المحاباة وتراقبها ولو بشكل غير مباشر. فعندما يُمكّن الطرفان من مراقبة إجراءات التقاضي ومتابعتها بدقة؛ فإن هذا كفيل بالرقابة والمحاسبة، بالإضافة إلى ضرورة تحديث اللوائح والتشريعات لتكون متطورة ودقيقة وتعالج الفجوات في العمل مع لوائح عقابية لتجاوز أي من معايير الشفافية والحوكمة.

عندما يوفر جهاز القضاء المعلومات والإجراءات بدقة للمتداعيين؛ فإن هذا جزء من رسالة القضاء وهي العدالة والمساواة، فتوفير كل المعلومات والمستجدات بدقة يوفر الحد الأدنى من الرقابة والمحاسبة، ويُمكن المتخاصمين من الحصول على حقهما بشفافية وعدالة. وأي محاولة لمنع المتداعيين من الوصول إلى معلومات القضية بما فيها الخطابات والأوراق الخاصة بالقضية أو مستجدات الاستئناف تعتبر مانعا من توفير العدالة كما ينبغي، كما أنها باب للفساد والمفسدين.

بقي أن نذكر أن الشفافية في القضاء يجب أن تشمل القضاة والمتداعين والموظفين داخل الجهاز، فالقضاة يجب مراعاة الشفافية في اختيارهم أولا، ثم في تقييمهم وتدريبهم وترقياتهم وتعييناتهم وشؤونهم الوظيفية بما يضمن العدالة والاعتماد على الكفاءة وحدها وهكذا، كما أن الشفافية يجب أن تشمل أيضا كل تصرفات القاضي تجاه المتداعيين وما يخصهما بما يوفر لهما الاطلاع على جميع مجريات القضية وكل مؤثر فيها، بالإضافة لقضاة الاستئناف وأسمائهم وما يُصدرونه في القضية، وفي سبيل هذا يجب تحديث عدد من الأنظمة ذات العلاقة لتضمن الشفافية.

كما أن الشفافية تشمل الموظفين داخل جهاز القضاء (والمكتب القضائي بالتبع)، فكل إجراء على الدعوى يجب أن يُعرف مصدره واسم المُدخل ومنصبه وهكذا، وهذا يشمل ما يجري على الدعوى في محكمة الاستئناف، سواء كانت إجراءات قضائية أو إدارية، وهذا من أبسط حقوق المتداعين الباحثين عن العدالة، وهو أحد أهم ركائز محاربة الفساد والمفسدين.

هناك الكثير من العمل على تطوير القضاء يجري حاليا، ونحن متفائلون بإذن الله برجال القضاء اليوم، إلا أن مثل هذه الجوانب ذات الشق القانوني النظري في غاية الأهمية، وأرجو أن يكون فيما كتبت ما يفيد.