تجاوباً مع التعليقات المهمة التي سطرها أصحابها مشكورين على مقالي المنشور سابقاً في هذه الصحيفة تحت عنوان: "الخلفية التاريخية والهوية الوطنية لمناطقنا الجنوبية"، وما جاء في تلك التعليقات من ربط بين مضامين المقال والمدلول الجغرافي للجهة اليمانية أي الجنوب، ومنعاً للبس سأحاول في هذا المقال التفريق بين اليمن الجهوي، واليمن الجغرافي، وأتفق بادئ ذي بدء مع سائر المعلقين على أن اليمن في لهجة الحجاز وتهامة وعسير تعني الجنوب، ومثلها الشام وتعني الشمال، ويقول ياقوت في تعريفه لليمن: "فإذا كانت اليمن عن يمين قوم [أي جنوب أو يمن] كانت على يسار آخرين [أي شمال أو شام]، وكذلك الجهات الأربع". (معجم البلدان: مادة يَمَن). وفي كل بلد من بلدان الحجاز وتهامة حارة يمانية وحارة شامية، وفي الكعبة الركن الشامي والركن اليماني، وفي اليمن وعسير تهامة اليمن وتهامة الشام، وصَحَار اليمن وصَحَار الشام، وفي جميع الأودية والجبال والشعاب يَمَن وشام، فيقال الشعب الشامي والشعب اليماني، والشاقة الشامية والشاقة اليمانية، والخَبْت الشامي والخَبْت اليماني، وهَدَى الشام وهَدَى اليمن، وليس لمدلول اليمن والشام على الجهة حدود تحكمها حتى علقت بالنجوم.

أما اليمن الجغرافي السياسي فتحدده الدلائل التاريخية المتاحة في المصادر الموثوقة، سواء ما كان منها منقوشاً على الصخور في عصور ما قبل الإسلام، أو ما كان مبسوطاً في المصادر التاريخية المخطوطة أو المطبوعة في العصور الإسلامية، ففي النقوش القديمة كان يطلق على الملك شَمْريَهْرَعَش في القرن الثالث الميلادي لقب: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويَمَنَة"، ومثل ذلك كان يطلق على الملك أبي كرب أسعد التُّبَّع اليماني في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الميلادي مع زيادة عبارة: "وعربهم طوْدًا وتهامة" والطَوْد تعني الجبال (يوسف عبدالله، أوراق في تاريخ اليمن، صنعاء:1406هـ،ص12). ويتضح من هذين النصين أن البلاد اليمانية تتكون من أربعة أقطار، هي: سبأ وذو ريدان وحضرموت ويَمَنَة (أي اليمن)، بالإضافة إلى أعرابهم في الجبال وتهامة، فإذا كنا نعرف سبأ وعاصمتها مأرب، وحضرموت وعاصمتها شَبْوَة، وذو ريدان وعاصمتها ظفار وحتى تهامة والجبال التي وردت في النص الثاني معروفة أمكنتها، فما هي إذن يَمَنَة (اليمن)، وأين موقعها من البلاد اليمانية؟ وقبل الإجابة على هذين السؤالين يجدر بنا استعراض الخارطة السياسية للبلاد اليمانية في صدر الإسلام، تلك الخارطة التي تقسم اليمن إلى أربعة أقطار هي: صنعاء ومخاليفها، والجَنَد ومخاليفها، وتهامة ومخاليفها، وحضرموت ومخاليفها (الرازي تاريخ صنعاء، دمشق:1401هـ،ص5)، وهذا التقسيم يتفق مع تقسيمها قبل الإسلام من حيث كونها تتكون من أربعة أقطار أو أعمال، إلا أننا نلحظ أن يَمَنَة (اليمن) لم ترد هذه المرة بالاسم، وإنما حلّت محلها الجَنَد ومخاليفها، فهل الجَنَد هي يَمَنَة التي وردت في نصوص ما قبل الإسلام، وأين هي الجَنَد وامتدادها في العصور الإسلامية؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال يجدر بنا استعراض تقسيم جغرافي آخر ظهر في العصور الإسلامية الوسطية، واستمر حتى عصر الناس هذا، ذلكم هو تقسيم البلاد اليمانية إلى قسمين، هما: اليمن العليا وقصبته صنعاء، ويمتد من قمة سُمَارة جنوباً حتى منتهى اليمن من الشمال عند حدودها مع المملكة العربية السعودية من جهة صعدة، والقسم الثاني اليمن الأسفل وقصبته زبيد، ويمتد من قمة سُمَاره شمالاً حتى منتهى اليمن السياسي من الجنوب عند مخلاف لحج، ويشمل التهائم بما في ذلك زبيد عاصمة الإقليم (الديبع، قرة العيون، القاهرة:1374هـ،ج1،ص32-36؛الجندي،السلوك،صنعاء:1403هـ،ص28 من مقدمة المحقق محمد بن علي الأكوع).

وإذا قاربنا موقع الجَنَد الذي حل محل يَمَنَة في النصوص القديمة فإنه ينطبق في جزء كبير منه على ما يسمى اليمن الأسفل الذي أشرنا إلى أنه يمتد من قمة سُمَارة شمالاً إلى مخلاف لحج جنوباً، ويشمل من المدن إلى جانب الجَنَد، إب وتعز، ومن التهائم المخا وزبيد مروراً إلى ما كان يعرف تاريخيًّا بالجهات الشامية. وكانت الجَنَد عاصمة الإقليم منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها جامع مشهور أسسه الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه في السنة الخامسة أو الثامنة للهجرة، وهو أول ولاتها في عصر النبوة، وقد انتهى دور الجَنَد كعاصمة لليمن الجيوسياسي، وحلَّت محلها مدينة تعز منذ عهد دولة بني أيوب، وشهدت تعز قمة ازدهارها في عهد دولة بني رسول التي حكمت اليمن أكثر من مئتي عام من 626-858هـ إلى أن سقطت على أيدي بني طاهر، وهم من قريش من بني عبد شمس. ومن ضمن هذا الامتداد الجيوسياسي مخلاف جعفر أو المخلاف، والنسبة إليه المخلافي التي هي علم على كثيرين من زعماء اليمن وعلمائها ومفكريها وسياسييها حتى في عصرنا الحاضر.

ويكاد يكون في حكم المؤكد أن الجَنَد ومخاليفها (أي تعز وإب وما حولهما) هي اليمن الفعلي، الوارد في النصوص القديمة والإسلامية، وأن هذا المصطلح شبيه بالشام الذي يعني دمشق عند أهل سورية، ومصر الذي يعني القاهرة عند المصريين، والكويت الذي يعني الديرة عند أهل الكويت.. وهكذا، والدليل على ذلك ما ورد في جميع المصادر اليمنية التي عُنيت بتاريخ دولة بني رسول على مدى أكثر من مئتي عام من أن سلاطين هذه الدولة حينما يخرج الواحد منهم من تعز إلى أي جهة معلومة خارجها، ثم يعود منها إلى تعز أن تلك المصادر تقرر بقولها: "ثم عاد إلى اليمن" حتى لو كان عائداً من عدن، وهي التي تقع مباشرة إلى الجنوب من تعز، مما يدل على أن اليمن اسم جغرافي معلوم لدى أهله في ذلك الزمن (الخزرجي، العقود اللؤلؤية، القاهرة:1332هـ،ج1، ص185،191،213،248،267 ،284-285 وما بعدها في أماكن متفرقة). ومن الأدلة أيضاً: أن صنعاء الواقعة إلى الشمال من هذا الإقليم فيها باب كبير شهير يعرف باسم باب اليمن يفتح في اتجاه قد لا يعني الجهة، وإنما يعني المكان أي اليمن الجيوسياسي الذي أشرنا سابقاً إلى أنه تعز وما حولها، ودليل ثالث أيضاً أن أهل تعز يسمون جهة الجنوب الجهة العدنية وليس اليمن، مما يعني أن اليمن الجغرافي توقف عند ديارهم. أما الجَنَد في الوقت الحاضر فهي قرية صغيرة اتصلت بتعز من شمالها الشرقي، ولم يبق لها من الشهرة إلا جامعها العتيق، وتاريخها العريق والأسماء اللامعة المنسوبة إليها، وعلى رأسهم بهاء الدين الجَنَدي صاحب كتاب: السلوك في طبقات العلماء والملوك، وقد أحسنت الوثيقة صنعاً حينما أطلقت اسم الجَنَد التاريخي على هذه البقعة المهمة من البلاد اليمانية.