كنت قد تلقيت دعوة من جهة حكومية للالتقاء بمسؤول ما، وكان من الواضح على هذا المسؤول أنه على اطلاع تام ومعرفة بأدق التفاصيل لكل ما ينشر في الصحف وتتناوله أعمدة الكتاب، فقال معاتبا: إنكم تطيرون بأتفه الأخبار، ومن غير تدقيق في المعلومة، لتصنعوا رأيا عاما حول حدث بسيط، أو ربما مفتعل بقصد الإساءة إلى جهة معينة.

وضرب على ذلك مثالا لحادثة تخص إدارته، أُثيرت فشعر بالامتعاض إزاءها، ولحسن الحظ أني كنت متابعا لتلك الحادثة، وراصدا لأدق تفاصيلها، وعلى معرفة بما قال الناس عنها في وسائل التواصل الاجتماعي، ومحاولة تضخيمها، إلى درجة التشكيك في ذمم مسؤولين كبار والمطالبة بإقالتهم، فقلت له: إن تلك الحادثة شاعت في وسائل التواصل الاجتماعي ولاكتها الألسن قبل أن تصل إلى وسائل الإعلام ومن غير أن يُكتب عنها في الصحف، مع أنه لو كتب عنها في وسائل الإعلام الرسمية، لطرحت بشكل أكثر صدقا وتهذيبا وأدبا، ولكان بإمكانكم توضيح الحقيقة ومقاضاة الكاتب والصحيفة في حال الإساءة أو نشر أخبار مغلوطة، كما أنه ليس في صالح الحكومة أن تكون وسائل إعلامها متحفظة، لأن ذلك سيباعد من المسافة بينها وبين الإعلام الجديد، فتفقد بذلك مصداقيتها وثقة الناس بها، وسينفضون عنها ظنا منهم أنها تمثل الحكومة لا تمثلهم، وأن من يريد الإبقاء على أن يكون سقف الحرية في صحافتنا منخفضا كما كان عليه قبل هذا الانفجار المعلوماتي، فهو مغيب أو مخدوع، لأنه بذلك يمارس انتحارا في مجال الدعاية، فالإعلام في هذا العصر أصبح موردا للقوة الناعمة، والتي تقاس بمدى قدرتها على التأثير والجذب والحشد الجماهيري، فأمام هذا الوفرة الغزيرة من المعلومات صار الانتباه هو الشيء النادر، وما لم أقله لذلك المسؤول: إن من يريد التأثير في الناس وجذبهم إليه بإعلام تقليدي يحاول استرضاء الجهات الحكومية على حساب المواطنين، هو كمن يستخدم السيف والرمح والفرس وغيرها من أسلحة الحرب القديمة في مواجهة الرشاش والصاروخ والطائرة، وهو لا يدري أن هذه الأشياء لم يعد لها وجود في هذا العصر إلا في المتاحف وأماكن الزينة، يراها الناس فيضحكون منها ويترحمون على عصر عنترة و أبي زيد الهلالي!

من المؤسف أن الإعلام السعودي ما زال متأخرا في مجال العمل الدعائي، وغير قادر على المنافسة، بمعنى أنه غير قادر على الجذب والتأثير وتوجيه الرأي العام، وبالتالي فإن الناس يبحثون عن المعلومة من خارجه، وهنا مكمن الخطورة، فكثيرا ما ينظر إلى الدعاية حين تأتي من الأعداء على أنها سلسلة أكاذيب فاضحة في البداية، ثم يعتبرها المشاهد تضخيما للأحداث، وينتهي به الأمر إلى تصديقها.

يذكر صاحب كتاب (القوة الناعمة) أن الحكومات تتنافس مع بعضها بعضا، ومع منظمات أخرى لتعزيز مصداقيتها وإضعاف مصداقية خصومها، مستدلا على ذلك بالصراع بين صربيا وحلف شمال الأطلسي، لتأطير تفسير الأحداث في كوسوفو عام 1999، والأحداث في صربيا بعد ذلك بعام، فقبل المظاهرات التي أدت إلى إسقاط سلوبودان ميلوسوفيتش عام 2000، كان 45% من الصرب البالغين قد تحولوا إلى راديو أوروبا الحرة وصوت أميركا، بينما لم يكن يستمع إلى المحطة الإذاعية التي تسيطر عليها الدولة (راديو بلجراد) سوى 31%، وعلاوة على ذلك فإن محطة إذاعة صربيا المحلية البديلة (ب 92) كانت تقدم الأخبار الغربية، وعندما حاولت الحكومة إغلاقها فإنها استمرت تقدم مثل تلك الأخبار على شبكة الإنترنت. مع العلم أن هذه الأحداث قبل 16 عاما! كما أن الأنظمة العربية التي ضربها إعصار التغيير فيما يعرف بالربيع العربي لم تصمد وسائل إعلامها المهلهلة أمام الإعلام الجديد، بل سقطت بالضربة القاضية وفي الجولة الأولى!

من المهم إعادة الناس إلى الإعلام الحكومي وجذبهم إليه، ولا بد من ممارسة الإيهام بالموضوعية، وذلك برفع سقف الحرية، لأن هنالك علاقة طردية بين نقد الجهات الحكومية ورضا الناس.

لاحظ أحد المسؤولين في الخارجية الأميركية أن احتواء المكتبات على مجلات تنتقد إدارة الرئيس ترومان وكتب تتعلق بالمسألة العنصرية من شأنه إقناع القراء في الخارج بمصداقية المادة.