لا يمكن لمن يعيش في فرنسا أن يتجاهل تلك الصدمة التي يعيشها المجتمع الفرنسي في كل مرة تعلن فيها وزارة الداخلية عن إحصائية جديدة لعدد الشباب الذين تركوا البلاد وارتحلوا إلى سورية أو العراق للالتحاق بـ"داعش".

هذه الصدمة قد يستوعبها البعض لو كان أولئك الشباب قد نشؤوا في بيئة تحرض على التطرف، لكن المشهد يزداد تعقيدا كلما اكتنف الغموض أسباب تخلي هؤلاء عن حياة يسعى إليها الآلاف بل ويتكبدون في سبيلها عناء المغامرة بأرواحهم في عرض البحر.

في المجتمعات الغربية تغيب ثقافة العيب حيال مواجهة الأزمات، مما يساعد في التصدي لها بقدر عال من الشفافية، وهي في سبيل ذلك تستخدم كل ما أتيح لها من قوة ناعمة، وهذا ما تجلى أمامي بوضوح خلال متابعتي لشريط إعلاني قصير يتحدث فيه ذوو بعض الجهاديين الفرنسيين دون أي مؤثرات لإخفاء ملامحهم، وذلك للمرة الأولى منذ بدء الإعلان عن انضمام عدد من الشباب الفرنسي إلى "داعش".

في بداية الشريط تظهر والدة أحدهم بشعرها الأشقر وعينيها الزرقاوين وهي تشكو غياب ابنها منذ أكثر من عام، وأنها غير قادرة حتى على الذهاب للبحث عنه وإعادته إلى أحضانها، وتقول بصريح العبارة: "كنا في السابق نخشى نظرة المجتمع لنا ونعتبر ما حدث أمرا معيبا، لكنه أمر طبيعي قد يحدث مع أي شخص"، وجهة نظر شدد عليها شاهد آخر في نفس الشريط، لكنه هذه المرة يحمل ملامح شرق أوسطية، مؤكدا أنه وغيره من الآباء ممن واجهوا مشكلة انضمام أبنائهم إلى "داعش" ليسوا ذوي إرهابيين ولكنهم ضحايا لهذا الواقع المؤلم.

هذه هي باختصار الفكرة التي ركز عليها هذا الشريط الذي كان الهدف منه أولا تحذير الشاب الذي لا زالت تراوده تلك الفكرة المشؤومة من مغبة ما سيفعله، وأثر ذلك على أسرته والمقربين منه، وثانيا التعريف بمأساة هذه العائلات وإماطة اللثام عن معاناتها من نظرة المجتمع السلبية لها.

حربنا مع الإرهاب ليست جديدة، وقصص انضمام شبابنا إلى تلك التنظيمات المتطرفة تعود إلى عقود مضت، مع ذلك لا يزال هناك تقصير حتى الآن في توعية المجتمع نحو علاج هذه المشكلة. وفي المقابل تنقل لنا إحدى الصحف المحلية هذا الأسبوع أصواتا تطالب بإشراك الأهالي في المسؤولية الجنائية متى ما علموا بتوجهات أقاربهم المتطرفة دون تحرك فعلي لردعهم.  

صحيح أن هناك آباء وأمهات اختاروا مؤخرا التبليغ عن أبنائهم لحمايتهم من أنفسهم أولا وحماية المجتمع من ميولهم المتطرفة ثانيا، لكننا مع ذلك نفتقر إلى أي حملة إعلامية تكرم هؤلاء وتدفع بهم كنماذج ينبغي الاحتذاء بها، والعمل على استيعابها بما يسمح لها التعامل بشكل طبيعي وعدم حصرها في بوتقة ولدها الشاذ فكريا.

نضيف إلى ذلك أن لدينا إشكالية حقيقية في التعامل مع الإعلام، وتزداد تعقيدا طالما أننا لا زلنا نعتبر هذا الإعلام سلاحا للتشهير وليس للتطهير، حتى أصبح مفهوم الظهور في برامج أو أشرطة توعوية من هذا النوع مرتبطا بفضيحة ستبقى ملتصقة بصاحبها إلى أمد طويل، وقد تحرمه حياة طبيعية مع من تبقى من أفراد عائلته، لذلك فإنه يختار -وبمباركة من محيطه- ثقافة الانزواء والبقاء في الظل، وبهذا يصبح المجتمع كالطبيب الذي انتهى من عملية جراحية بنسيان المقص في بطن المريض، وهي ثقافة ستزيد حتما من تعفّن الجرح ولن تساعد في تجاوز الألم.