ودعت الخارطة الإسلامية عامها الهجري الذي تتبارى إليه كل الأسماء والصفات، عام هجري يقف راحلا محتارا، فيم يختار؟ هل هو عام "الرمادة" أم عام النكبة أم هو عام غابة الوحوش التي حصدت قنابله في أيامه الثلاثة الأخيرة ما يقرب من 400 روح ما بين الساحات والشوارع وحتى المساجد؟ هنا فكرة جهنمية تكتب تفاصيل ليلة الوداع. ماذا بقي في الذاكرة من عامنا الراحل في كل ما شاهدت أو سمعت أو قرأت؟ سأبدأ بذاكرة السمع. ستبقى جملة "تكفى يا سعد" أيقونة الذاكرة السمعية ما حييت لأنها تجسيد مخيف لم يحدث علنا في كل التاريخ البشري ما بين الأمل الجارف للاستمرار في الحياة وبين سرعة الرصاصة القاتلة. ستبقى صورة الطفل السوري "إيلان" ذروة الذاكرة البصرية لأنه غادرنا حين اكتشفناه بوجه "منكبّ" إلى الرمل وإلى الأرض وكأنه يخفي وجهه عن ملايين وجوهنا "السوداء" التي رقصت على مأساته.
رحل العام الهجري وترك لنا صوره. ترك لنا منظر تلك الأم مع ابنتيها حين تطلب مني ذات ليلة بكاء أن أترك لهم بقايا طعام أسرتي حين ننتهي منه ونحن المسافرون على الطريق السريع ما بين مدينتين. رحل العام الهجري ليترك لنا صخب وجلجلة سؤال الفتوى الشهير في الليلة ما قبل الأخيرة: هل يجوز الوضوء بمياه المريخ؟ أفتنا يا فضيلة الشيخ، ولو قرأ أحفادنا بعد 500 سنة هذا السؤال لظنوا أن أجدادهم العظام كانوا يعيشون ذات العام المودع في مختبرات الفضاء ومسبار الاكتشافات الفلكية التي تفرز مياه المريخ عن هواء كوكب الزهرة. وسيأتي من يزور التاريخ كي لا تقرأ الأجيال القادمة أننا ابتدأنا عام 1436 للهجرة على أخبار سبايا دولة الخلافة من الطائفة الأيزيدية، وأنهيناه على تفجير مزدوج حصد عشرات الأرواح في عاصمة ما كان يسمى سابقا دولة الخلافة. سيأتي من يزور التاريخ كي لا تقرأ الأجيال بعد خمسة قرون من اليوم أن عامنا الهجري المغادر قد شهد تفجير 47 مسجدا بالإحصاء والبرهان، وسيأتي من يكتب لهم مثلا أن ضحايا مسجد "طوارئ أبها" كان بسبب التماس كهربائي.
والخلاصة أن العام الهجري يودعنا وكأنه يقول لنا: اخجلوا حين يكتبكم التاريخ وأنتم من سكن أيام هذا العام ولياليه. أنتم عام "إيلان... وتكفى يا سعد"، مثلما أنتم سكان ذات العام الذي تطلب فيه عائلة يتيمة مجرد خمسة ريالات منتصف المساء ما قبل الأخير كي تشتري علبة فول وربطة خبز. واخجلوا أخيرا من عام يودعكم وقد انقسمتم فيه إلى 1437 فصيلا، وكل فصيل يحارب الآخر تحت شعار الهجرة النبوية المباركة البريئة من كل هذا الفعل. هو عام "العار" الذي يسلمنا إلى عام "خزي" قادم.