توجهت البارحة إلى زيارة صديق أقعده المرض في بيته منذ زمن طويل. يشتكي صديقي من مرض ينتمي إلى فئة (أمراض المناعة الذاتيّة)، وهي فئة من الأمراض تشترك في كونها ناتجة عن عطب في جهاز الجسم المناعي. من المعروف أن الوظيفة الطبيعية لذلك الجهاز مكافحة الأجسام الدخيلة من فيروسات وميكروبات ونحوها، وهذا ما يختل في الجهاز المناعي المصاب بأحد أمراض المناعة الذاتية، حيث يختلط الأمر على مضاداته فلا تقتصر بهجومها على الجسيمات الغريبة، بل تتعدى ذلك إلى مهاجمة خلايا الجسم نفسها فتدمرها بالشراسة نفسها نتيجة عجزها عن التعرف عليها.
هناك عدة محاولات لتفسير نشوء هذا العطب، وإن كان أهم هذه التفسيرات هو ما يتعلق بإرجاع الأمر إلى كفاءة الذاكرة المناعية التي تتشكل معظمها على مستوى الخلايا اللمفية. ولكن من المؤسف أن الأسباب الحقيقية وراء هذه الزمرة من الأمراض غير معروفة حتى الآن، ولذلك فالكلام عن إمكانية وجود علاج حقيقي لها غير وارد في المستقبل القريب على ما يبدو. مما يعزز هذا الأمر حقيقة تتعلق بأن أغلب هذه الأمراض تصنف كأمراض نادرة الوقوع، وعليه فإن الجدوى الاقتصادية التي تأملها مراكز البحوث المنتجة للدواء أضعف من المستوى الذي قد يحفزها إلى تحمل هذا العبء.
وهذا نموذج من الإشكالات الناتجة عن الطبيعة الرأسمالية لصناعة الدواء في العالم، فصناعة الدواء ترتبط غالبا بحجم الشريحة المستفيدة منه والقدرة الشرائية لها في العادة، فإذا كان عدد المستفيدين ضئيلا أو كان المرض المستهدف بالمكافحة مقتصرا بانتشاره على المناطق الفقيرة، فإن هذا يعد مثبطا للشركات المفترض بها إعداد بيئات العمل ودفع أجور العاملين على البحث العلمي الذي قد ينبثق منه اختراع الدواء. لأن سداد مثل هذه التكاليف والربح من وراء ذلك يكون مستبعدا حينها. من أمثلة ذلك أن العالم الرأسمالي لم يأخذ مرض الإيدز على محمل الجد إلا بعد تزايد انتشاره في الأجزاء الثرية من العالم، بعد أن كان يقف منه موقف اللامبالي تقريبا في المرحلة التي كان فيها يحصد الناس بالعشرات في البلدان الأفريقية الفقيرة. لذلك ربما يكون من المنطقي في عالم يهتم ببذل الجهود الجبارة في مجال مكافحة الصلع وتبييض البشرة أكثر من اهتمامه بإنقاذ أرواح البشر؛ أن يسعى المصاب بمرض نادر إلى المساعدة في انتشاره عالميا في البيئات الثرية، لأنه ربما نجا بانجذاب رأس المال لعلاج المرض نفسه حينها.
خطر لي هذا وأنا في طريقي إلى زيارة صديقي الصابر، ثم لاح لي أن الأمة بأسرها تعيش مأساة مشابهة لمأساة صديقي من عدة وجوه، وأعني هنا ذلك الخلل العجيب المسمى (داعش). أغلب إن لم تكن كل العناصر الداعشية مصابة بذلك الخلط الذي يدفعها إلى مهاجمة الجميع دون تمييز بين الأجسام المعادية والخلايا المنتمية لأنسجة الجسم الأصلية، إنهم أعداء كل شيء وكفى، بل تعدت عدائيتهم البشر إلى الحجر والشجر بالحمى والحماس نفسهما. إنهم أحد (أمراض المناعة الذاتية) التي تعصف بهذا الجسد الكبير، يحملون معهم عطبا أوليا متعلقا بالذاكرة المناعية أيضا، يعكس ذلك مستوى الجهل النظري المؤسس لفكرهم الذي نرى ملامحه في كثير من الأفكار التي سبق أن تقبلتها وتناقلتها الخلايا اللمفية لهذه الأمة دون نقد أو تمحيص، فبات خريجو تلك الأفكار يحملون خارطة معرفية ضيقة تعجز عن تمييز الوسيلة من الغاية وبيان العدو من الصديق، فإذا سألت أحدهم سؤالا أوليا من قبيل: هل خلق الإنسان من أجل الدين أم نزل الدين من أجل الإنسان؟ انحدر عليك بخطبة تتكلم عن الدين والإنسان دون أن تحتوي أثرا من دين أو إنسان.
سرعان ما تتفعل المضادات الداخلية لأي جسم يحمل ذاكرة مناعية منخفضة بتعرضها لبعض الظروف الخارجية، فينشأ عن ذلك داء مناعة ذاتية من قبيل (الذئبة الحمراء) أو (الروماتويد) أو (التصلب المتعدد)، ونحو ذلك، وقد ينكشف نتيجة لها مزيد من مساحة الجسم المفترض بها حمايته لتفتك به الأجسام الدخيلة بشكل فعلي ودون حماية حين ذاك، وكذلك حالنا تقريبا مع داعش وأشباهه.
بحتُ لصديقي الصابر بكل ذلك عند وصولي إليه، وزاد هو بأن هناك زاوية شبه أخرى من حيث تحمّل الرأسمالية العالمية جرما لا يقل فداحة بخصوص إعراضها عن المشكلة التي ربما أفرزتها ممارساتها في المنطقة، وعليه فإنها غالبا لن تلتفت إلى حجم الكارثة إلا إذا طالت ثيابها، وهو ما بدأ يشكّله وصول المهاجرين اللاجئين بشكل متزايد إلى العالم الغربي في الآونة الأخيرة.
ولكنه حين سألني عن إمكان اعتبار الأنظمة العربية الجائرة التي تجلد شعوبها فتدفعها إلى جحيم داعش وأشباهه، بأنها تجلي لأحد (أمراض المناعة الذاتية) أيضا؟ وجدت نفسي أعترض وأرى أن التوصيف الأنسب لها هو (مرض نقص المناعة المكتسب)، فهي أشبه بالإيدز من حيث عملها على الإضعاف الدائم للجسم الحامل لها وتهيئته لقبول الغزاة.
قلت حينها بنبرة خافتة: كم هو بائس شرق المتوسط عندما عانى جسده من الداءين معا، ليجيبني صديقي: جسدي أفضل حظا من جسد شرق المتوسط إذن!