يقولها بكل وضوح مستندا إلى أريكة سلطته المتغطرسة، بعد ما شغل منصب وزير الاستخبارات لثماني سنوات في عهد الإصلاحات المزعومة، اتسمت وزارته خلالها باغتيال عشرات المثقّفين والمعارضين ليختفي کغيره من لاعبي السلطة طيلة السنين العجاف لأحمدي نجاد، ثم يظهر في عهد روحاني بحلة مستشارٍ له في شؤون القوميات للأقليات الدينية. إنه علي يونسي، 64 عاما، صاحب التصريح المثير للجدل في العام الماضي، الذي اعتبر خلاله أن بغداد كانت عاصمة الدولة الفارسية، وأنها تعود إلى کنفها الإيراني. لم يقل ذلك عبثا أو دون تنسيق، بل كان يعني ما يقول، قالها کجزء من صلاحياته بعدما أصبح الشعب العراقي وطوائفه محتلا.
في لقائه الذي نشرته صحيفة الشرق الإيرانية في الحادي عشر من هذا الشهر لم يتحدث الرجل - الذي يوصف بالمعتدل والإصلاحي - كمستشار لرئيسه وحسب؛ بل کخبير أمني ووزير مخابرات إيراني مخضرم، ليثرينا بتحليله حول حادثة منى الأليمة، التي ما أن وقعت إلا وانطلقت التصريحات المغرضة والمعدّة سلفا، مطالبين بتدويل إدارة الحج، بعدما جددوا شعارهم الذي لقنهم الخميني إياه إبان وقيعتهم بمكة في الثمانينات، مطلقين عنان العنصرية تجوب شوارع عاصمتهم الكئيبة والأسيرة تحت وطأة نظامهم الشوفيني.
استمروا هكذا لأكثر من أسبوع، دون أن يلقوا آذنا صاغية من أي طرف يتعاطى معهم في تطبيق نواياهم، سوى أتباعهم من هنا وهناك. وما إن صدموا بسياسة المملكة الهادئة؛ حتى راحوا يستبدلون الأدوار لتغطية فشلهم الذريع في استغلالهم السياسي والإعلامي للحادثة، ليناغموا السعودية بأدبيات ناعمة کي يطرحوا أنفسهم شريكا حكيما يسعى لخير الأمة وصلاحها. وفي سياق هذا التلون السياسي عرضوا الوجه الآخر لعملتهم المعهودة عبر إطلالة شيخ الإصلاحات وحكيم المدبرين، هاشمي رفسنجاني خلال لقائه مع صحيفة "مردم سالاري" مصرحا بأنه كان على علاقة جيدة مع الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وطرح عليه حينها تشكيل هيئة تتكون من سبع لجان، من بينها لجنة متخصصة من العلماء، تعالج الخلافات الفكرية والعقدية بين السنة والشيعة، وتؤسس لمرجعية تحكم بينهم وتميز الخطأ من الصحيح في معتقداتهم، وتطرح ما لا يمكن حله جانبا. متابعا قوله "الملك عبدالله وافق على ذلك، شريطة ألا يكون الرئيس نجاد طرفا فيه، واشترط أن يكون خامنئي الشريك الحقيقي له. وبعد أن زار الراحل سعود الفيصل طهران لتنفيذ الاتفاق جاء الرفض من خامنئي، متذرعا بأنه لا يتقلد منصبا حكوميا وأن ذلك ليس من صلاحياته، بل من صلاحيات الحكومة التي بدورها رفضته جملة وتفصيلا".
وتابع رفسنجاني بالإفصاح عن هواجسه تجاه الصراع الشيعي السني قائلا: "ليست لدينا أية مشكلة مع أبناء السنة، وكل هذا القتل الذي يقع بين الجانبين محرم شرعا. طبعا نحن- أي الشيعة - لا نرتكب القتل كما هم يقتلون، رغم ذلك ينبغي لنا جميعا العمل على تطويق الإرهاب الذي أصبح الشغل الشاغل للعالم كي لا يتحول إلى حرب عالمية أخرى".
وبعد أن عقب قائلا: "لا شك أن الشيعة في بلاد السنة مضطهدون، كما أن السنة في إيران معترضون ويطالبون بأن يكون لهم مسجد جامع في طهران، إضافة إلى مساجدهم الصغيرة هنا وهناك"، راح يروي حكاية قلق وتذمر السيستاني في النجف من سياسات إيران في المنطقة، التي جلبت الويلات للشيعة والسنة أيضا، راويا أن السيستاني قال له "أنتم الإيرانيون تطلقون تصريحات وتتصرفون من منطلق القوة وتثيرون مخاوف الدول التي تقطنها أقلية شيعية، الأمر الذي يزيد من مشكلاتهم ومعاناتهم، بينما أنتم تعيشون أمنا ورخاء" ثم تساءل السيستاني "ما الذي يدفع بنا لأن نتصرف مع الآخرين بهذه الطريقة غير المسؤولة ليضطروا إلى أن يتعاملوا بالمثل مع الشيعة"؟
تصريحات انفعالية ومواقف متعجلة
أتت تصريحات رفسنجاني متزامنة مع تصريحات مشابهة ليونسي، أدلى بها لصحيفة شرق الإيرانية، قال خلالها "حادثة منى كانت خسارة للجميع، ولم تقع لأسباب اعتيادية وإلا كان من الممكن تلافيها، فمثلا نحن في إيران لم تشهد تجمعاتنا المليونية هكذا حوادث، لذلك ينبغي أن ننظر لها من زاوية التطورات السياسية في المنطقة". وفي سؤال طرحه عليه الصحفي قائلا: بعض الضحايا الإيرانيين هم من أبناء السنة، كما أن كثيرا من الضحايا غير الإيرانيين سنة أيضا، إذّا لماذا تعجلنا بتوجيه أصابع الاتهام إلى السعودية؟ ولماذا انفردنا بالمطالبة بنزع إدارة الحرمين من السعوديين؟ فيجيب يونسي "لا أرى بأن المملكة هي التي قامت بذلك لأنه يضر بمكانتها، مرجحا أن يكون ما وقع نتيجة مؤامرة إسرائيلية تهدف للوقيعة بين السعودية وإيران. ويرى أن تصريحات الإيرانيين ومواقفهم النارية تجاه المملكة كانت مستعجلة ومنفعلة وأن التيارات القومية العنصرية والمذهبية المتطرفة في الداخل والخارج غذتها بشكل ملموس.
وعن إمكان تطويق أزمات هكذا، قال يونسي "التوجهات القومية (العنصرية الفارسية) في إيران تتخذ من الشعارات الوطنية والمذهبية غطاء لتحقيق أهدافها، وتنشط تحت ذريعة المصلحة الوطنية، وهي فاعلة كغيرها من التوجهات القومية الكردية والتركية وتتم بتنسيق تام مع نظرائها الداعمين لها في الخارج، مما يؤثر في القرارات السياسية الإيرانية على الصعد الداخلية والدولية.
يونسي أوضح أن الهاجس الرئيس للنظام الإيراني في الوقت الراهن هو أمنه الداخلي، وأنه بدوره يسعى إلى انتهاج سياسات تقضي على التوجه العنصري الفارسي المعادي للشعوب غير الفارسية وأبناء السنة، نافيا انتكاسة سياسات الإصلاحيين تجاه تلك الشعوب وعودتها إلى ما كانت عليه قبل الإصلاحات، مدعيا أنه حقق إنجازات كبيرة من خلال إقناع الحكومة بتعيين قائم مقام سني واحد في منطقة سنية، وتعيين سفير سني واحد أيضا، منوها بأن التمييز العنصري في إيران تحول إلي معضلة وثقافة مستفحلة لا يمكن حلحلتها عبر سن القوانين، أو إسناد بعض المناصب إلى أبناء الشعوب غير الفارسية أو السنية.
توزيع الأدوار والمواقف
يختم يونسي قائلا "الشعور بالحرمان والتهميش عند تلك الشعوب خلق أرضية خصبة لتدخل الأطراف الإقليمية التي خسرت سياسيا أمام إيران، بعدما كانت تظن أن طهران ستخرج خاسرة في هذا الصراع الإقليمي الذي تشهده المنطقة، فجاءت النتيجة عكسية تماما، تصطحب انتصارات عظيمه لإيران، فنحن الوحيدون الذين انتصرنا في العراق، وكذلك في أفغانستان ولبنان وغيرهما، من هنا راح خصومنا يفعّلون استراتيجيتهم ضدنا عبر مسارين أولهما: إذكاء وتأجيج الصراع بين السنة والشيعة، والثاني: إحياء الحس القومي العربي وتجنيده ضدنا".
إن هذه التصريحات وأمثالها تتعقب أهدافا متعددة أبرزها: التسويق الداخلي لكسب أصوات الشارع في انتخابات مجلسي الخبراء والشورى المرتقبة، التي ستشهد صراعا عنيفا بين تيار رفسنجاني وخصومه. وكذلك إنقاذ الموقف الإيراني ونزع فتيل الأزمة بعد فشله في تحقيق أي مكاسب من حادثة منى. رغم ذلك ينبغي للسعوديين أن يتوخوا الحذر في التعامل مع هكذا تصريحات، قد تفضي للالتفاف عليهم، عبر تمثيل مشاهد مسرحية يمثلها الإيرانيون بوجوه مختلفة. لا سيما أن يونسي حذر السعوديين من تكرار هكذا حوادث قد يرتكبها الإسرائيليون في كل لحظة، على حد تعبيره.