واسمحوا لي، فأنا لا أكتب هذا الصباح قصتي الشخصية مع العزلة ولا مع الحزن، بل أكتب تجربة الآلاف مع مدن يسكنونها بدافع الحب، في مدن مثل الأم الرؤوم حين تلفظ أبناءها البررة. لماذا اختصرت هذه المدينة كل حركة أقدامي إلى روتين يومي ما بين منزلي وبين بيت "أمي" على بعد أمتار قليلة في رأس الشارع؟ لماذا، وبعد كل هذا العشق حد خيال الجنون، تلفظني هذه الـ"أبها" فلا تدعوني إلى سمرة أو ندوة؟ لماذا تلفظني وأنا المحتاج إلى دفء الأصدقاء في المرحلة الحاسمة من توديع الشعر الأسود؟ خذوا هذه المعلومة للمفارقة: قبل أعوام قليلة يقول لي الصديق الأثير، أحمد التيهاني، إن هذه "الأبها" تتربع على عرش المدن العربية يوم استأثرت بـ"47" أغنية حين كتب لها عمالقة الشعر العربي: من خالد الفيصل إلى غازي القصيبي، ومن أفواه طلال إلى موالات محمد عبده، كان "أبو ماجد" يحاول البرهان على أن أبها أخذت من غزل الشعر والغناء ضعف ما كان لبيروت أو القاهرة.

والخلاصة الأهم تكمن في حكاية الآلاف على شاكلتي مع مدن الحزن رغم العشق حد الجنون. عشت كل حياتي في مدن باردة لا تعرف من الشمس سوى لمبة النور والإضاءة، وهنا تفاصيل القصة: لا زلت أتذكر بالضبط تلك الظهيرة التي وصلت فيها إلى "بولدر" الأميركية منتقلا إليها من جامعة جورجيا التي قضيت بها عاما مكتملا تحت الشمس التي لم تكن مناسبة لعواطفي الساخنة: العواطف الجياشة لا تنبت أبدا تحت الحرارة. بعد أشهر قصيرة من السكنى في بولدر الأميركية التحقت بي زوجتي في شهورنا الأولى من الزواج. كانت يومها في حزن بالغ ونوبات بكاء على فراق "أبها" وعلى الشوق لتلك الهضاب الأبهاوية التي ولدت بها وعاشت بينها لعشرين سنة. كنت أحاول إقناعها بأنه لا يوجد على الأرض مدينتان مثل "بولدر وأبها"، وكنت أحاول في شهر الزواج الأول أن أبرهن لها أن "ميسا" في بولدر لا تشبه إلا "النمصا" الأبهاوية، وأن حارة "فيردا" نسخة من "شمشه"، وأن "نيوتن كورت" لا يشبهها سوى "الخشع". وقبل عام ونصف بالضبط: وقفت معها فوق صخرة عملاقة تشرف على مدينة "بولدر". تماما كما وقفنا عشرات الليالي على قمة جبل "نهران" فوق أبها، هي نفس الأسئلة، لماذا نعيش غرباء في مدن تلفظنا؟ ولماذا نصل إلى سن الخمسين دون أن نكتشف مدينة تقبلنا بهدوووء وطمأنينة؟