يقال إن المرأة هي نصف المجتمع، ولكن عند البعض هي تمثل مجتمع الشيطان فقد روي في تراثنا أن "النساء نصف جيش الشيطان"، أي أن الشيطان وبمساعدة النساء يستطيع تحقيق مقاصده وإنجاز مهمته في إغواء البشرية وبث الشرور والفتن في المجتمع.

مثل هذه الرواية تعكس نمط التفكير في المجتمع آنذاك، فمثل هذه الذهنية كانت سائدة في تلك الأجواء، وكثير من الناس ورجال الدين لا يعترضون على مثل هذه الروايات، وعلى أحكام وحقوق النساء الواردة في الفقه الإسلامي عموما.

في الماضي على سبيل المثال، كان من المندوب والمستحب أن تتزوج الفتاة في سن التاسعة، وقد قيل إن من سعادة المرء أن يزوج ابنته قبل بلوغها في بيته، وفي ذلك الوقت لا أحد يعترض على مثل هذه الزيجات، ولكن في وقتنا الحاضر فإن كثيرا من الناس يستنكرون تزويج البنت في هذه السن الصغيرة، ويعدّون ذلك إهدارا لكرامتها وحقوقها الفطرية، وعلى الرغم من هذا الاستنكار إلا أن هناك صراعا داخليا في المجتمع يتمثل في التناقضات بين مقتضيات العصر الحديث وأحكام الفقه القديم. فالفقهاء اليوم لا يستطيعون إنكار أو تجريم زواج القاصر قانونا، بسبب التمسك بالموروث الديني التقليدي.

فكما رأينا آنفا كيف تغير رأي الناس في سن زواج الفتاة، وكيف كانت الروايات والأحكام الفقهية مرتبطة بعرف ذلك الزمان وثقافة الناس آنذاك، وبالتالي فإن تلك الأحكام لا تملك قيمة أبدية ومطلقة بأي وجه من الوجوه، وهكذا الحال في مسألة حقوق المرأة وسائر الأحكام المتعلقة بها.

قبل أسابيع، قام بعض الدعاة والنشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي بحملة شرسة ضد أحد المؤتمرات الطبية بسبب مشاركة المرأة فيها، باعتبار ذلك جزءا من مؤامرة ليبرالية لتحرير المرأة وتمرير الاختلاط بين الجنسين، كما تم تداول خبر عن فرض غرامة مالية وعقوبات أخرى على المرشحات والناخبات في المجالس البلدية عند اختلاطهن بالرجال!

وفي هذا الصدد يقول أحد الدعاة عن الاختلاط إنه "بريد إلى السفور، طريق نحو الفُجُور، إذا حلَّ الاختلاط في المجتمعاتِ مرضَت القلوبُ، وفسدت الأخلاق، وانْتُزِعَ الحياء، وضعفت القِوامة، وانطفَأَتِ الغَيْرَةُ، وانتشرتِ المُحَرَّماتُ والموبقات، وفشتْ حالات الإغراء والابْتِزَاز".

والحديث عن مؤامرة الاختلاط في رأيي، هو في الحقيقة عبارة عن ردة فعل تجاه تسلم المرأة للمناصب الحكومية، وتوسيع مشاركتها الاقتصادية والاجتماعية، في ظل عدم الاعتراف بصلاحيتها لهذه المهمات على الإطلاق، وبالتالي فإن الاعتراف بحق المرأة بهذه المشاركة يعّد هدما للأحكام الفقهية القديمة في نظرهم، لذا قد نجد البعض يطير فرحا عندما يسمع قصة تحرش جنسي في ميادين العمل، كما يضخمون مخاطر الاختلاط ويركزون على سلبياته، في الوقت الذي تبدلت الأعراف والتقاليد.

من المفارقات العجيبة، أن بعض هؤلاء الدعاة لا يستنكرون على بعضهم البعض عندما يقدمون محاضرات مباشرة للنساء أو حتى مجالستهن والحديث معهن في طاولة واحدة، فهذا الأمر مستساغ عندهم دام أن المرأة خاضعة للسلطة الذكورية.

ففي نظر بعض الدعاة، أنه قسمت طبيعة المخلوقات إلى ذكر وأنثى، وحددت لكل نوع مكانه في المجتمع واتجاهه في الحياة ورسالته التي يجاهد في سبيلها، ورسالة المرأة الأولى مملكتها المنزلية، فلم تترجل في سلوكها وتطلب ما لا يتفق مع طبيعتها؟ ثم يستدل الدعاة لصالح هذه النظرية عن طريق الإجماع، وكذلك آية القوامة وبعض الروايات مع أن القرآن الكريم لا يقف موقفا سلبيا من مشاركة المرأة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لقد قصّ علينا القرآن الكريم قصة بلقيس ملكة سبأ، وكيف قادت قومها بالحكمة والحنكة السياسية والتعامل العقلاني مع الأحداث، وكيف أخرجت قومها من دائرة الضلال إلى النور، وكيف "أفلحت" في تحقيق مهمتها الصعبة وحققت نجاحا لم يحققه الرجال أمثال فرعون وجالوت.

لا شك أن القرآن الكريم يمثل المصدر الأول في التشريع الإسلامي، ويمثل المعيار الحقيقي في تصنيف الحديث الصحيح والضعيف من ناحية المتن عند علماء الحديث وفي القرآن مبادئ عامة ثابتة تصلح لكل زمان ومكان، مثل العدل والمساواة والإنسانية ونبذ الظلم وإيذاء البشرية، ومع ذلك يتمسك الدعاة ورجال الدين بروايات وأحكام فقهية قديمة تصلح في الماضي فقط، ليطبقوها على مجتمع الحاضر الذي انقلبت فيه الموازين، فخالفوا مقتضيات العدالة والإنسانية، وظلموا المرأة بذلك وصادروا حقوقها في المجتمع الحديث.

لقد أثبتت المرأة المعاصرة عمليا في أكثر دول العالم، جدارتها بتولي كثير من المناصب المهمة في جميع المجالات من رئاسة وزراء إلى القضاء والمحاكم والمجالس البلدية والبرلمانية وحتى الجيش والشرطة، ولولا النظرة السلبية والدونية للمرأة في المجتمعات الإسلامية، ومن خلال التأويل التعسفي للنصوص الدينية والفتاوى الفقهية القديمة، لرأينا أن المرأة المسلمة تتفوق على نظيرتها الغربية في كثير من المهارات والخبرات.

يدرك المجتمع التغيرات الحديثة الطارئة عليه، وفي الوقت نفسه يتعامل معها ببطء شديد، ويعيش الصراع النفسي "مسألة الحلال والحرام" في تقبل هذه المتغيرات التي منها حق المرأة في تولي المناصب، والمشاركة في كل الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، ولكن عندما يتذكر الناس قضية تعليم البنات في بدايتها، وكذلك استخدام التقنيات الحديثة ربما يزول هذا الصراع، ولكن يبقى الخطر في الفراغ الروحي والأخلاقي والإنساني للمجتمع بسبب تناقضات خطاب بعض رجال الدين والدعاة، والذي يسهم بشكل من الأشكال في ابتعاد الناس عن الدين، والتجربة خير برهان على ذلك.