- لقد تعبت من الهرب..

- إذن توقفي!

هكذا تجيب ببساطة السيدة العجوز والدتها التي توقف بها الزمن عقب تعرضها لحادث غريب، فبقيت في عمر واحد منذ عقود لم تفقد خلالها مظهرها الشاب ولا جمال شكلها وحيويتها، بينما هي (الابنة) تكبر وتشيخ كل عام أمامها وتقترب من الموت. ما حدث أن "آدلين" المولودة عام 1908 توقفت عن التقدم في السن بعد حادث السير الذي تعرضت له وهي في التاسعة والعشرين من عمرها، ولم تجد أسبابا منطقية أو طبية تشرح لها حالتها الغريبة هذه التي لن تكتشف كظاهرة علمية إلا لاحقا في عام 2035 على يد العالم فون ماين، فلم يكن لديها من خيار إلا أن تتعايش مع وضعها الجديد وتستمر في البقاء حية للأبد، بينما كل شيء حولها يتغير ويتقدم ويتلاشى بالموت والعدم. وكم هي مرعبة فكرة الأبدية، والبقاء في المكان نفسه بينما الأشياء تمضي حولنا. في محاولة للتعايش مع وضعها الغريب هذا كانت تضطر لتغيير هويتها كل عقد من الزمن، اسم جديد وشكل جديد ومدينة جديدة، حتى لا يكتشف أحد أمرها ويتساءل عن سر هذا الشباب الدائم! هذا الهروب المستمر جعل حياتها شبه خالية من أي إنسان يعلم بحقيقتها إلا ابنتها التي أنجبتها قبل حادث السير ذلك بشهور. حتى إنها حينما التقت بالشخص الذي غيّر مجرى حياتها لاحقا أجابته حينما سألها أن تخبره عن حياتها فقالت: "لدي كلب"، كأهم الأشياء التي تمتلكها في الحياة وأكثرها استمرارا معها في هذا الهرب الدائم.

في إحدى الصدف، وقبل موعد انتهاء عقد جديد من فترات التغيير لشخصيتها، التقت بـ"إليس" الذي كان يحاول جاهدا أن يبدأ معها علاقة جادة، ولكن اعتيادها على الرحيل والهرب من أن يعرف أحد حقيقتها يمنعانها من التمادي معه أو الاستسلام لرغبتها في حياة أكثر استقرارا مع شخص تحبه. في محاولة يائسة لتبرير نمط حياتها كانت تسأله: "أخبرني بشيء يمكنني التمسك به للأبد ولا أخاف فقده"! فيطلبها فقط: "دعي حذرك".

لم يكن أمام آدلين التي تخشى فقد من قد تتمسك بهم إلا الفرار مجددا، فحلمها في أن تشيخ بجوار من تحب يتلاشى، ويحل مكانه قلقها من بقائها شاهدا على مضي السنوات، وفقدان كل شيء حولها بالتقادم يدفعها إلى متابعة التخفي والرحيل. لم تعلم في تطور دراماتيكي آخر أن لقاءها بوالد إليس "وليام" عالم الفلك الذي كان ينتظرها في خيالاته كشهاب راهن على ظهوره في حياته ولو طال الزمن، يكشف لها كم كانت رحلة هربها شاسعة، فقد كانت على معرفة به قبل سنوات طويلة وفرت منه كعادتها أمام كل منعطف مهم في حياة الأبدية التي تعيشها. فصارت فجأة عالقة بين ذكريات قديمة ومستقبل قادم ستجمع بينهما بهروب جديد. حاولت قبل جمعها لنفسها وحاجياتها أن تقنع نفسها ببدء حياة مختلفة عما سبق، حياة أكثر استقرارا مع "أليس" الذي اختاره قلبها، ولكن غلبة الخوف من المستقبل حرضتها على الهرب. كانت خلاله تستعيد شريط حياتها التي لم تعرف سوى الركض في الغياب من حياة الآخرين ومن أحلامها. وجاء القرار الأخير، أن تتوقف، أن تستدير قليلا باتجاه ما تريده حقا، أن تلتفت إلى نداءات نفسها الأصدق وتجاري أمنياتها ولو لبرهة. وحينما همّت بالعودة لـ"أليس" تعرضت لحادث سير آخر نجت منه بأعجوبة، وتسبب في عودة وظائف جسدها إلى طبيعتها، لتكتشفها لاحقا بعد أن تمضي في حياتها الأخيرة. عادت إليه بعد أن قررت التوقف عن الحذر وعن الهرب وأن تكون أكثر صدقا مع من تحب على الأقل. وبهذه النهاية تكون آدلين بدأت فصلا جديدا من حياتها لم تظن أنها ستعيشه في أبدية قد سيطرت على مجرى أيامها. قصة عمر آدلين "The age of Adaline" ظهرت سينمائيا في أواخر أبريل 2015 من إخراج Lee Toland Krieger وبطولةBlake Lively Michiel Huisman وHarrison Ford. وهذا المقال ليس قراءة فنية لهذا الفيلم الجميل الذي لا بد أن يلامس شيئا في العمق لمن يشاهده، ولا محاولة لإسداء النصائح أو إعطاء بعض التوجيهات بقدر ما هو دعوة للتوقف قليلا عن الهرب من مخاوفنا.. التوقف عن الركض المحموم في مساحات القلق التي نخشى الاعتراف بها حتى مع أنفسنا. دعوة أن نخلع حذرنا وتوجسنا، وأن نستدير نحو زاوية مختلفة واتجاه جديد لم نخطط له مسبقا ولم نتوقعه، اتجاه آخر وبعد جديد بعيد عن فخ الماضي وغني عن المستقبل الذي لا نستطيع الجزم بالقبض عليه، والغرق في اللحظة الراهنة بكامل شغفنا وحواسنا وقراراتنا، فربما حينما نتوقف عن الهرب والانقياد خلف "آلة" الحياة قد نجد الأفضل الذي طالما تمنيناه، والذي بسوء تقدير منا نبتعد عنه تحت مبرر الخوف من فقده لاحقا.

كثيرا ما نبدد مخاوفنا في الحياة بالركض المتسارع فيها، دون مشاهدة الجمال الذي يحيطنا، نهرب من واقع مزدحم بالتناقض ونفقد شغفنا تجاه ما نحب وما نتمناه، نُغرق ذاتنا في العمل، في البحث عن أسباب الانشغال الدائم عن تساؤلاتنا عما نريده حقا، نصبح آلة جديدة تسحقها مع الوقت آلة الحياة الكبرى، لنتفاجأ في نهاية الطريق أن كل محاولات الهرب السابقة سلمتنا للوحدة وتركتنا على جرف النهاية الذي يصبح التراجع عنه متأخرا جدا وقد غادرنا رصيف العمر.

لنتوقف قليلا عن الهرب في هذه الأبدية الغامضة. نجلس على ذلك الرصيف.. نأخذ نفسا عميقا نفكر معه في أولوياتنا، ربما وجدنا زاوية أخرى جديدة نسير نحوها وتسعدنا.