ابتكرت مارثا نوسباوم، من أشهر فلاسفة أميركا في عصرنا الحديث، فلسفة أخلاقية وسياسية قادرة على تجديد فهم الحركة النسوية والعدالة، إضافة إلى دور العواطف، ومجال التنمية البشرية والأدب.

لم تؤثر هذه الفلسفة فقط على تنوع الموضوعات وعدد الصفحات المكتوبة؛ بل أصبحت أيضا "طريقة".

اختارت مارثا اتجاه حقوق الإنسان التي تشكل الأساس الأخلاقي لمبادئ السياسة. تندرج تحت مصطلح الفلسفة الأخلاقية مواضيع أخرى في غاية الأهمية، على سبيل المثال: العلاقة بين الأساليب الأدبية والفلسفية في التفكير الأخلاقي، دور العواطف في الحياة الأخلاقية، وتأثير مفهوم العيب والاشمئزاز على الحياة الاجتماعية والقانون.

يمثل نقص الدعم لبعض الفئات الاجتماعية، "في كثير من الأحيان أشد الناس فقرا"، مشاكل الاستقلال أو القمع التي تؤثر على النساء، بطريقة واضحة للغاية.

فيما يختص بالعدالة، ضمت مارثا صوتها إلى الاتجاهات النظرية الأميركية المختلفة التي تبين أن الليبرالية السياسية فشلت في مفهومها للعدالة.

يمكن للمرء أن يطرح هذا السؤال عن الليبرالية السياسية: هل يقيم المبدأ الليبرالي للحكم الذاتي، القائم على الاعتراف بالفردانية العقلانية، قبول إقصاء جميع الكائنات المستقلة من بينهم النساء؟ وبعبارة أخرى، كيف يمكننا مقاومة عدم المساواة بين الجنسين ضمن منظومة فكرية لا تعترف بذلك باسم ترشيد أو عقلنة المواضيع؟

إن حدود العدل صارمة جدا بسبب التقليد السياسي، هذا التقليد من العقد الاجتماعي الذي يتصور الأفراد "أحرارا، متساوين، مستقلين".

يمكن أن تشكل الليبرالية بوصفها عقيدة اجتماعية قادرة على تحقيق التشابه والتماثل بين البشر ضد كل أشكال التبعية أو الخضوع والإذعان.

ما نظرية القدرات؟

تتبنى نظرية القدرات إحدى القيم الأساسية لليبرالية، ألا وهي الحرية، التي تمنح كل فرد المجال الإنساني الممكن. وفي الوقت نفسه، تتناول مختلف الأشكال الحالية لليبرالية الاقتصادية.

تستخدم القدرات للدفاع عن قوة الإنسان وليتم توزيعها بالتساوي والعمل ضد كل ما يمنع وجودها، مثل: الطبقة الاجتماعية أو الجنس أو الأصل العرقي أو الديني.

يتجدد منظور حرية الإنسان من خلال حرية الإنجاز، إذ تتطلب الكرامة الإنسانية إتاحة أوسع خيار ممكن، وهو ما يعني الانتباه إلى سياقات معينة تفضيلية، والهدف هو إيجاد طرق لإعطاء قوة للإنسان ومعالجة تلك الوسائل التي حظرت الحرية عبر مختلف أنواع العقبات والقيود، والسؤال الرئيس هو ما يلي: "ما قدرة كل شخص في سياق حياته على الإنجاز والوجود؟"، هل اتخاذ موقف ضد قضية سياسية يعد وظيفة لها أهمية قصوى في حياة البشر؟

قد يجيب البعض ويقول: وما الذي سيتغير عندما أتخذ موقفا ضد تهجير الشعب السوري على سبيل المثال؟ دعنا نقوم بسؤال آخر: ما الذي سيحل بالمجتمعات أو الشعوب -كالشعب السوري- حين تصمت على الظلم والقهر سوى الموت؟! أم أن هناك من لا يزال يمارس أضعف الإيمان بطمأنينة قلب وهروب من جلد الذات وتأنيب الضمير كون الفساد أكبر من قدرته على منعه؟

لا نتساءل للشعور فقط بالارتياح عندما نتحدث عن قضية ما، بل لمعرفة قدرتنا على الفعل تجاه هذه القضية أو تلك، بمعنى آخر: ما حدود الإمكانات والحريات؟ إن طلب العدالة في مجتمعات -خاصة تلك التي تقبع تحت حكم العسكر- يعني وجود خلل في أنظمتها وسياسة حكوماتها. وهكذا فإن قدرات أفراد المجتمع يجب أن تقود إلى السياسات العامة لتحديد مستوى الدولة في تعزيز العدل، لمعرفة كيف يمكن للحكومات أن تعمل على الارتقاء بنوعية حياة المحكومين، عن طريق تطوير القدرات الفردية لا قمعها.

تشمل القدرات الجميع، لأنها تجسد الحريات الأساسية التي تحترم وجود الإنسان. من ناحية أخرى، فهي تتوافق مع تنوع الحضارات ومستويات التنمية، لأنها تنطوي على عتبات وأولويات تحددها كل دولة وفقا لخصائصها.

إن القدرة هي شكل من أشكال الحرية التي تتضمن مسارات الوصول بما فيه الكفاية للجميع، وهي تفترض أيضا المساواة: أي يمكن للجميع الاستفادة من هذا الخيار في سياق ما. عندئذ، نستطيع تحديد القدرات الأساسية التي يهدد غيابها حياة الإنسان، بمعنى أن وجودها أو غيابها يعد علامة على وجود أو غياب الحياة الإنسانية، على سبيل المثال: صحة الجسد، الحواس، الخيال، الفكر، العواطف، العقل العملي، السيطرة على البيئة ووجود نباتات وحيوانات.

من خلال هذه الأشياء، يستطيع الإنسان بناء نفسه واستثمار رغباته بطريقة تعددية. في المقابل، يقوم المجتمع بمهمته في دعمه للتعبير عن قدراته حيث تستحق كل حياة دعما أوليا. نظرية القدرات تفسر العدالة الاجتماعية كأفق واسع لجميع البلدان في العالم. ومن ثم، فهي وسيلة جديدة للتفكير في الليبرالية السياسية ضد النيوليبرالية التي تجعل المجتمع مكانا للمنافسة والصراع باسم المسؤولية الفردية والربحية التي تبرر عدم المساواة.

المساواة التي تعني توفير الفرص لجميع أفراد المجتمع في مجال التعليم والصحة والإسكان والعمل والمشاركة السياسية، ومن ثم يمثل كلا من الظلم والحرب عقبات تمنع وجود حياة لائقة وكريمة.

تشترك معظم الشعوب العربية في أنها عانت من وطأة الاستعمار، وفي أنها مارست المقاومة وحركات التحرير كحق شرعي، لكن عيبها الأكبر هو عدم التفكير في طبيعة السلطة ونوع الدولة وأسلوب الحكم الملائم لطبيعتها، عدم التفكير في النظام السياسي الذي يحقق لها الإنصاف والعدالة، ويوفر الحقوق والعيش الرغيد والرفاهية.

إن عدم تفكير المجتمعات العربية في هذا الأمر وتركيزها فقط على الاستقلال والخلاص من المستعمر، أسهم في جعلها حقل تجارب لأنظمة حكم سمتها الظلم والاستبداد والتفاوت الاجتماعي.