إن رأيت في نفسك يوماً القدرة على سماع الآخرين ومن ثم نقد ما لديهم من آراء قد لا تعجبك فذلك لا يعني بالضرورة أنك تعيش في وسط مفعم بالحرية، أو أن حولك كائنات ديموقراطية ملونة وجميلة تتقبل الرأي الآخر وتبحث عن المساهمين في صناعته.

لا تستعجل فربما يكون ما أصابك هو مجرد عوارض مرضية سرعان ما تزول بالعودة لقراءة كتاب كليلة ودمنة واللحاق بالحلقة القادمة من توم وجيري، وإياك أن تعتقد ولو للحظة أنك أصبحت إنساناً حراً يمكنه تشكيل ألوان الصباح واختيار عناوين المستقبل بمجرد أن يبتسم في وجهك أصحاب الرأي الآخر، وأنهم بابتساماتهم تلك يتفهمون ما لديك ويحترمون رأيك! فهناك عقبات كبيرة عليك أن تواجهها قبل أن تتعرف على أصحاب الرأي الآخر وكيفية الاختلاف معهم وكيف يعيشون وما هي اهتماماتهم ومتى يتنازلون لسماع رأيك؟ المهم ألا تتعجل في طرح رأيك إن قابلتهم بالصدفة فربما أن رأيك يختلف عن آرائهم فتكون قطيعة أبدية أنت في غنى عنها، خصوصاً إن كان ما يزال في جعبتك الكثير من الأحلام التي تسعى إليها ولم تصل بعد، فأصحاب الرأي الآخر عادة ما يعيشون في مزارع تسمين خاصة، وليس من السهل أن تصل إليهم في أي وقت، "وأنت وحظك" حينما تلتقي بهم، فقد يكونون على طريقة بوش الابن الشهيرة: إن لم تكن معي فأنت ضدي، وقد يكونون على طريقة عادل إمام في مسرحية الزعيم: أنا فكرت وقررت (وعايز موافقتكم)، وربما يكونون من فصيلة نادرة لم تُشاهد بالعين المجردة حتى الآن. فإن ابتسم لك الحظ وقابلت أحدهم فعليك أن تتبع الدليل التالي كي تنجو بنفسك من علامات الخرف المبكر: أولاً لا تخبر ـ من تصادفه منهم ـ بحجم قراءاتك الغزيرة بل قل له إن سألك ـ وغالباً سيفعل ـ إنني مقل في القراءة ولا أجد وقتاً كافياً ولا أحسن اختيار الكتب التي تتلاءم مع ثقافتي المتواضعة، وإنني مجرد تلميذ صغير في مدرستكم الموقرة، وهنا ستمنحه فرصة الشعور بالعظمة في حضرتك، وسيبدأ في استعراض قراءاته ومعارفه الغزيرة ودوره التنويري في المجتمع الذي لا يريد عليه جزاء ولا شكوراً، وسينصحك بقراءة كتب معينة قد تبدو لك أنها من طبعات السبعينيات الميلادية، لكن تجاوز هذه الفكرة المزعجة طالما أنك في حضرة أحد أصحاب الرأي الآخر فهذا شرف عظيم، وعليك أن تتلقف منه كل الكلمات التي يلقيها عليك، فإن شعر بأنك "لست معه على الخط" فسينبهك أنه لولا المحبة وأمانة الرسالة لما قال لك هذا الكلام الخطير، وسيؤكد لك مراراً ـ حتى تشك في جودة أذنيك ـ أنك من الذين يُعقد عليهم الأمل في انتقال البلد إلى البُعد الثقافي الرابع بشرط أن تواظب على قراءة ما ينصحك به! وأن "تستدلخ" أمام جنابه الكريم ما استطعت فالقيام مع القدرة كما تعلم، ثانياً: إن فتح لك صاحبنا موضوع الحرية فأنت حقاً من السعداء العارفين بأسرار الكبار، إذ إنه سيحلف لك بعد مقدمات عجيبة ومضنية لك وله: أن زامر الحي لا يُطرب، وأنه كان على وشك أن يطرب كل الأحياء المجاورة لولا أنهم سرقوا منه القيثارة، وحاربوه وهو يستعد لعزف النوتة الخالدة، وسيحدثك عن المنظمات الحقوقية، ومن هيومن رايتش إلى أحمدي نجاد، طبعاً ليس لنجاد علاقة بحقوق الإنسان لكن هناك أجزاء مفصلية ودقيقة في الرأي الآخر أنت لا تفهمها وعليك أن تختزن فقط. هل شربت مقلباً كبيراً؟ ربما، لكن تجاوز هذه الفكرة أيضاً طالما أنك في حضرة أحد أصحاب الرأي الآخر.. ويا لك من مثابر حين تصبر على الوصول إلى هذه المرحلة المهمة في الطريق الطويل لمعرفة أصحاب الرأي الآخر، ونظراً لمثابرتك وصبرك فسأعطيك ثالثاً: صاحب الرأي الآخر عادة ما يحب السفر، وزيارة سور الأزبكية وخان الخليلي وقهوة الفيشاوي، إذن اسأله عن الكتب التي جلبها معه من السفر؟ ولا تتفاجأ حين ينهمر عليك بعناوين كتب أنت تعلم قبل غيرك أنها من الأساس لم تدخل المطبعة، ومع أنه سيقول لك بأنها كتب ممنوعة من دخول البلد لخطورتها على الرأي العام، وأن فضلها على كتبنا كفضل طماطم أبو شوكة على طماطم المحميات، إلا أنك ستكتشف في النهاية أن "معسل قهوة الفيشاوي" اللعين له مفعول السحر على أصحاب الرأي الآخر، ولذلك تختلط عليهم الأمور أحياناً والمؤمن مصاب! طبعاً أنت تسأل الآن ـ وهذا من حقك ـ هل هنالك أصلاً شيء اسمه رأي آخر؟ وأقول لك نعم هو موجود ومقدر. لكن يبدو لي في أحيان كثيرة أن هذا الرأي الآخر وصل للتو إلى العالم العربي، وأنه مستورد كالأندومي والمكرونة ومصفف الشعر، لذلك تحول إلى شيء ثانوي، وكم يدهشني هذا الرأي الآخر حينما أجد الجميع يتحدثون عنه وفي الوقت نفسه ليس لديهم استعداد لاستضافته ومعرفة ما لديه ومن يكون؟ الرأي الآخر هذا انتشر في الآونة الأخيرة بشكل لافت حتى إنك تعتقد بأنه سيدخل عما قريب في "سَلَطَة خِيار" السلام، وحتى في "البروست الحراق"، ومع ذلك فكل من "يخبط في الحلل" هذه الأيام يقول إنه يمثل الرأي الآخر، ولأنني لا أستطيع تحديد معالمه ومعرفة أبطاله الحقيقيين فقد اكتفيت بما أعرفه عن بعض مُدعيه لحين ميسرة، ولك الخَيار أيها القارئ، فإن لم يعجبك ما قلت فعد إلى أجمل ما قالته العرب عن أشياء كثيرة صُدمت بها: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه".