بعـد حـادثة الـتزاحم في منى (24/9/2015) صرح المرشد الأعلى للثورة في إيران مهددا السعودية ومتوعدا برد عسكري إن لم تسلم جثث الإيرانيين، وهو تصريح بثته وسائل الإعلام الإيرانية وتلك الموالية لها بتركيز شديد، وهذا تصريح من الواضح عليه التسرع ونقص المنطقية، إذ ليس من الوارد أن تحتفظ السعودية بجثث الأموات في تلك الحادثة، والسؤال هو لماذا يتصرف المرشد بهذه الطريقة، ويتعمد بث تصريحه على أوسع مجال إعلامي، ومثله كانت خطبة روحاني رئيس الحكومة الإيرانية في الأمم المتحدة في 28 من الشهر نفسه، حيث افتتح كلمته بمهاجمة السعودية على تلك الحادثة، وما كان لذلك الهجوم من فائدة سياسية لإيران خاصة من على منبر الأمم المتحدة التي يعرف كل سامعيه أن حوادث مثل هذه تقع وأشد من يتصدى لها هو البلد المضيف، ولن يخطر ببال أحد أن السعودية تساوم على الحجاج أو تفرط بمقامها وبمسؤولياتها في أمر كهذا.. إذًا ما الداعي لمثل هذه التصرفات غير الحكيمة وغير العملية، خاصة أنها تصدر من أهم قطبين في نظام الحكم في إيران..!
وفي مقابل ذلك يأتي تصريح من أحد مساعدي وزير الخارجية الإيراني وآخر من مكتب هاشمي رافسنجاني، يقول كل منهما إن السعودية غير مسؤولة عما حدث وإنه حادث مأساوي على الجميع، أي أن تسييسه أمر لا يصح. ثم أتمها وزير الصحة الإيراني حين صرح بأن الحادث خارج عن إرادة السعودية، وقد قالها بعد أن وقف على حالة المصابين الإيرانيين ولمس مقدار عناية الصحة السعودية وتحملها لدورها في متابعة مغبات الحادثة.
هل المسؤولون الصغار أكثر حكمة ووعيا سياسيا من القادة الكبار..! وكيف برجل في مقام المرشد الأعلى يورط نفسه بكلام غير منطقي وغير عملي، ثم يهدد بأمر يعرف يقينا أنه لن يتمكن من تنفيذه، وهو الحل العسكري من أجل نقل جثث الأموات، حسب تصريحه..!
مشكلة الخطاب السياسي الإيراني أنه خطاب بلا سياسة، أي أنه خطاب انفعالي وسريع ومتوتر، ثم إنه يجنح للتهديد والتوعد، وكأنه يتعامل مع العالم بوصف البشر شياطين، وأن المرشد هو المخلص الكوني للبشرية من شياطينها، وهنا يحضر مفهوم الشيطان الأكبر وتحول صفة الأكبر بصيغة زئبقية، حيث يظل صفة جاهزة في أي خطاب سياسي ويتم إسباغها على المستهدف في الخطاب المعين لحظتها، بحيث يكون العالم كله شياطين من حيث المبدأ، ثم تأتي صفة الأكبر حسب مناسبة الحالة الماثلة، ويعقبها تهديد بالغزو والفتك، وقد حدث هذا مع لغة المرشد تجاه إسرائيل، حيث كانت التهديدات بسحقها من الوجود، وانتهت بلقاء مع حسن نصر الله في قناة المنار (19 سبتمبر 2015)، وهو اللقاء الذي استبشرت به صحيفة معاريف الإسرائيلية، حيث ذكرت أن نصرالله تجنب المساس بإسرائيل في مقابلته تلك ولم تعد شيطانا، لا أكبر ولا أصغر.
وهذه خاصية أسلوبية تعطي الشيء ونقيضه، وتمتد من المرشد الأعلى حتى كوادر الحرس الثوري بكل قياداته وصحفه وفضائياته وممثليه خارج إيران مثل السيد حسن، وفي مقابلته في قناة المنار، ردد كلام المرشد حينها، مهددا ومتوعدا السعودية وغاضا الطرف عن أي شيء يمس إسرائيل أو أميركا (كما كان ديدنه في سابق أوقاته) بما أن الشيطان هذه المرة (واحد تاني).
هنا تأتي مشكلة قراءة الخطاب السياسي الإيراني، إذ لا تعرف على أي شيء تعتمد من أجل تحليل العقل السياسي لهذا النظام الثوري، الذي ظل على حال الثورة ولم ينتقل إلى حال الحكم ونظريات بناء الدولة، ولا ترى منه وعنه إلا نظرية الثورة المتمثلة بشعار (تصدير الثورة)، ولذا تسمع تصريحات واعية سياسيا ولها بعد منطقي وعلمي، وفي مقابلها تصريحات نارية تأزمية وانفعالية، والعقدة هنا أن الحس التأزيمي هو الأهم في سلم القرار بما أن المرشد الأعلى نفسه هو أشد الفئات تشددا في خطابه وفي لغته، لدرجة يضيع فيها المنطق والتراتب الذهني وتجد نفسك أمام وجوه تتعدد شكلا ولغة وتفكيرا، وتجد أن مآلات خطاب كل الأطراف تظل في حال تقلب لا نظام له ولا رابط بين تحولاته وتتابعاته، وفي الوقت الذي يتم القبض فيه على خلايا إيرانية في العواصم العربية تجد أن وزير خارجية إيران يزور هذه العواصم تحديدا لكي يدعو لقيام تحالف عربي إيراني لمحاربة الإرهاب، وهنا يأتيك السؤال الصعب: تصدق من .... وتصدقه في أي لحظة من لحظاته....! وتنتهي بورطة تاريخية أمام كيان سياسي له من الوجوه ما تعجز عن رسمها وعن متابعتها.
هذه الازدواجية الثقافية في لغة الخطاب السياسي الإيراني ظلت ملازمة لهذا الخطاب منذ ظهور الثورة الخمينية واستمر عنوانا ملازما لها، ويظهر مع أشد المواقف حرجا حيث يتفاوضون مع أميركا ويطلبون ودها والتحالف معها في السياسات والاقتصاديات وفي الوقت ذاته تسمع عن حملة شعواء تشن من قيادات إيرانية نافذة ضد وزير خارجيتهم لأنه صافح أوباما في ردهات الأمم المتحدة، وتم وصف جواد ظريف بالخيانة الوطنية بسبب تلك المصافحة، وهكذا ترى الشيطان الأكبر حليفا ومنبوذا في آن واحد، في حالة ازدواج ثقافي تأصل حتى صار خاصية أسلوبية. وهذا أمر يجعل كل قراءة فاحصة للخطاب الإيراني في حال ارتباك متصل.