مقلق هو الوضع في العالم العربي، فبعد تدخل روسيا عسكريا في الحالة السورية، عادت إلى الذكريات أيام ما كان يسمى بالجهاد الأفغاني، وارتحال عدد كبير من أبناء السعودية إلى الأراضي الأفغانية ليتكون بعد انتهاء الحرب الأساس الجهادي لتنظيم "القاعدة" حتى تطورت الحالة إلى النصرة وداعش، والتنظيمات الشيعية التي لا تختلف عن التنظيمات السنّية في وحشيتها، فلماذا يتحول الجهاد إلى إرهاب؟

تجاوزا للسرد التاريخي أقول: إن تشابها فكريا من الأفغان إلى العراق  وسورية، وتطورا مقلقا في مفهوم الجهاد هو الذي تشترك فيه هذه التنظيمات، إذ إن مفاهيم الجهاد في العراق كانت امتدادا لمفاهيم الجهاد وتحولاته في أيام الأفغان، محملة بكل إشكالات الفترة الأفغانية والتحولات السياسية في تلك السنوات، فأصبح المتطرفون يذهبون هناك مع كثير من الشحن الديني من عدد كبير من الدعاة الذين كانوا مسؤولين عن ذلك رغم أن اللعبة كلها سياسية.

في غالب التنظيمات، تحول المجاهد من شخص مدافع عن حق الإنسان في العيش إلى رجل يقطع الرؤوس على الهوية، كما أننا نشاهد كيف أن الفصائل الإسلامية الجهادية تتبادل مشاهد القتال بين بعضها بعضا في سورية بعد الثورة، حتى كان القتال مشكلة دولية حقيقية أفسدت أكثر مما أصلحت.

تكررت عملية تحول "المجاهدين" إلى "إرهابيين" في أكثر من مرة. في أفغانستان والجزائر والعراق وسورية، لم يكن هذا من قبيل الصدف الغريبة، بل هي راجعة إلى بنية فكرية في التكوين الجهادي لدى جميع هذه الجماعات المتطرفة منذ نشأتها، ومنذ تبنيها فكرة الجهاد من أساسها.

بالطبع، هناك عوامل متعددة ساعدت على تحوّل هؤلاء إلى ما هم عليه. ربما يكون لبعض السياسات العربية والغربية دور في هذا التحوّل، إلا أنه لا يعفي تلك الفصائل من تهمة الإرهاب، كونها كانت تحمل بذور التطرف رغم أن مفهوم الجهاد في العصر الحديث لم يكن إلا لعبة سياسية، طالما كان رجل السياسية ورجل الدين يشتركان في صناعة الحدث الجهادي بعلاقات دولية سياسية من السياسي وتغليفه بالديني من رجال الدين لمصالح مشتركة بين الطرفين.

إن النظر إلى أدبيات تلك الجماعات والموازنة بينها، يمكن أن يقودنا إلى رؤية المشتركات الفكرية والعملية بينها، ما يمكن التنبؤ معها بـ"حتمية" تحول كثير منها من المفهوم الجهادي إلى العمليات الإرهابية، لأن مفهوم الجهاد لديها يقود بالضرورة إلى المشكلات العريضة التي قادتها لاحقا إلى قطع رؤوس بعضهم بعضا، والاقتتال فيما بينهم؛ فضلا عن قتال غيرهم.

كان مفهوم الجهاد، وما زال، مجرد ورقة سياسية تتصارع خلالها الأطراف الدينية والسياسية لأسباب سياسية بحتة. الإشكالية أن ضحية هؤلاء هم الشباب المغرر بهم، وبعض دعاة الدين هو أكثر المهرة في تحريض الشباب على الجهاد، وهو أول من يتخلى عنهم ويتركهم إلى مصائرهم، ثم يبتعد عنهم ليدعي لاحقا وسطيته وابتعاده عن التطرف وادعائه انحراف هؤلاء الشباب في فهم الدين الصحيح.

من المهم مراجعة مفهوم الجهاد عند تلك الفصائل، لأنه يعدّ من الأصول المهمة لدى غالبية السلفيات الجهادية، وتشترك أكثرها في المفهوم الكلي، وتختلف في التفاصيل، كما تختلف في مسألة وقوع الحكم على الحادثة، وإلا فإن المفهوم الكلي واحد لديها، فالأصول واحدة، وإن تغيرت الصور والتطبيقات، وآليات العمل على المفهوم في الواقع.

ولذلك، فإنه لو قادت الظروف إلى هيمنتها على المشهد في فرض رؤاها، فإنها ستقود إلى ما قادت إليه الفصائل الأخرى في سورية.

مبدأ تطبيق الشريعة مثلا نراه يقود إلى عملية إرهاب المجتمع وتطبيقه بالقوة رغم الاختلاف على تفاصيل هذه الشريعة في المذاهب الفقهية والدينية في الإسلام. رأينا مشاهد القتل والجلد وتطبيق الحدود الدينية في مشاهد فيديو متكررة، رغم أن الوقائع تختلف من مكان إلى مكان، إضافة إلى اختلاف المفاهيم الشرعية من أساسه.

هناك مشتركات فكرية عدة بين السلفيات الجهادية بحيث تصب كلها من منبع واحد، وإن كانت تختلف في جريانها، فمفهوم الجهاد، لديها جميعا، يتصل بمفهوم الحاكمية، والذي يتصل بدوره هو الآخر، بمفهوم الولاء والبراء، وهذا ما يقود إلى المفاصلة مع كل الأنظمة العربية والإسلامية التي لها علاقات دولية، وهنا تختلف في تطبيق هذه المفاهيم على تلك الدولة أو تلك.

بمعنى أن هذه السلفيات تختلف في تسمية الأنظمة الكفرية مباشرة، ويتحرج بعضها من ذلك لأسباب سياسية أو دينية، وإلا فإن هذه المفاهيم تتصل بعضها ببعض، وتقود في النهاية إلى المشاكل ذاتها لدى الفصائل المتناحرة. ولعل موقف هذه السلفيات من مفهوم الديموقراطية ـ كما ذكرناه في مقالات سابقة ـ دليل على مدى أزمة الجهاديين مع المجتمعات، لأنها تنظر إلى الديموقراطية بوصفها كفرا، وهذا الفكر يقود بالضرورة إلى تكفير ذلك المجتمع الذي يتبناها لمبدأ الحاكمية الذي لا تختلف عليه السلفيات جميعها.

من هنا، تتحول عمليات الجهاد إلى عمليات إرهابية "ربما" قادت إلى جهاد المدنيين الموالين، أو قتلهم لإشكالية التمترس مع العدو، وهذه من المفاهيم والإشكالات التي تختلف عليها السلفيات الجهادية، أي أنها تختلف في الإجابة حول سؤال: هل يُقتل المدني لولائه للدولة، أم بسبب أن العدو يتمترس بهم في المواجهات العسكرية؟!، وهذا الاختلاف راجع ـ كما قلت ـ إلى مدى تطبيق المفاهيم الكبرى على الواقع، بحيث تطبقها السلفيات الجهادية بحرفيتها، في حين تتوقف السلفية العلمية دون ذلك، وتتحرج منه.